مدينة السلام والتوابل!

أحد, 14/04/2019 - 22:31

دكار مدينة تفوح منها كل روائح إفريقيا. يجمع سكانها المال من أشياء بسيطة، ويصنعون السعادة من تفاصيل الحياة الصغيرة، كقرع الطبول؛ وتحليل نتائج المصارعة التقليدية، وتناول الطعام الحار. مثقفون من طراز رفيع جدا، وجامعة الشيخ أنتاديوب الضخمة والمستلقية قرب المحيط؛ تبوح لزائرها بكل ذلك، فتحت شجرة الباوباب العملاقة قرب كلية الطب، سيدرك الزائر بأن العلم هو نور التنمية. عندما نزلت من الزورق؛ ووضعت قدمي أول مرة على أرض السنغال لم أشعر بأنني دلفت أرضا غريبة، هواء أرضها تسرب لرئتي بكل سلام. عنصر الأمن في الضفة الأخرى؛ حينما استفسرنا عن طبيعة نشاطنا؛ وأخبرناه بأمرنا؛ طالب علم رفقة أستاذ فيزياء؛ تهللت أسارير وجهه وكلمنا بكل لباقة، مما يشي بأنهم في السنغال؛ مازالوا يحتفظون ببقية احترام للمعلم ويوفونه بعض التبجيل.. كان الصباح مستيقظا في الضفة الأخرى؛ ومضمخا بكل ألوان الكفاح، أصحاب الدراجات يكادون أن يعانقوا جميع العابرين بكل شوق! كأنهم أقربائهم، حتى يظفروا بأجرة حملهم لمحطة المسافرين. إخترت ركوب عربة "الوتير" التي يجرها الحصان، دوران عجلاتها في الشارع يدغدغ خيالي، فأشعر أنني ملك منصب؛ يجوب شوارع مملكته صباحا ليلقي التحية على رعيته. داخل محطة المسافرين بدا المنظر تسعينيا، سيارات عتيقة من نوع رينو تنتظر دورها بجوار باصات صغيرة، الباعة المتجوليين؛ يمتلكون إلحاحا وأملا في البيع لا يضاهي، فتاة صغيرة تبيع الماء التصقت بثيابنا كعلكة رخوة، فكلما اعتذرنا لها بكوننا لا نشعر بالظمأ، زاد إصرارها في البيع، انتصرت علينا في النهاية وباعتنا قنينة من الماء، لو كنت امتلك ربع الأمل والإصرار الذي تمتلكه، لكنت الآن فيزيائيا مرموقا، إن الأمل حقا هو وقود الحياة، درس قدمته لي تلك اليافعة من حيث لا تشعر... ودعت رفيقي ودلفت سيارة رينو العتيقة؛ ديكورها من الداخل جعلني أشعر أنني أتابع فلما قديما، كانت بعض الرسائل القديمة مطمورة في سقفها، ومسبحة ملفوفة حول مبدل مستويات السرعة لجلب الحظ ربما. الركاب يطرحون أسئلة قديمة؛ ويسألونني عن الوقت. لا أذكر آخر مرة سألني فيها أحد عن الوقت. القانون جميل حقا عندما يطبق؛ الشرطي عند نقطة التفتيش لم يرهقنا جدا بتلك الأسئلة التائهة، تفحص أوراقنا بكل لطف-وقد كنت الأجنبي الوحيد في السيارة-ثم أشار علينا بالانطلاق.. الطريق صقيلة، تتكاثر الأشجار على جنباتها وتتنوع كلما إقتربنا من دكار، كلما رأيت سكان القرى المتناثرة حول الطريق يجلسون تحت ظلال البيوت والأشجار، شعرت بالرغبة في التمدد بينهم، أشجار إفريقيا تمنح الظل بكل حب. كنت كلما رأيت معزاة تذكرت الوطن، لا أتصور أن الماعز يمكن أن يعيش خارج موريتانيا. أشعر بأنه يخصنا فقط. ظل النهر يرافقنا من بعيد؛ وأحيانا يدنو ثم يختفي وراء الأعشاب اليابسة، قطعان الأبقار البيضاء والداكنة ذات القرون الطويلة كانت تجد ما تأكله. عاصمة غرب إفريقيا أيام الاستعمار مدينة " سينلوي ". مدينة جميلة تنعشها نسائم النهر وتصطف على جنباتها واحات نخيل أو شجرا يشبه النخيل، اللغة العربية كانت حاضرة على اللافتات المنصوبة على الطريق اقرأها ولا أفهمها، ربما هي بعض اللغات المحلية مكتوبة بحروف عربية، مررنا على قرية تسمى القدس الشريف، بعض القرى الأخرى والمدن كانت اسماؤها صعبة النطق، خاصة تلك المدينة التي تعبرها سكة الحديد. الشعب السنغالي شعب طيب جدا ويعيش من غلة أرضه، يصنعون الكراسي والزرابي والقبعات والحقائب من عروق أشجارهم. وكل أطعمتهم المعروضة للمسافرين، جلها گرته وتوگه؛ وحبوب أخرى لا أعرفها، منها واحدة بحجم البلحة قشرتها بنية، عندما ناولني إحداها الجالس بجواري، رمقته خلسة بنظراتي حتى أعرف هل سيأكل قشرتها أم لا؛ كان طعمها لذيذا. رغم جمال الطريق وخلوها من المطبات؛ إلا أن السيارة كانت تتحرك بسرعة عادية. قمت بحساب كل تلك الحفر الموجودة بين الضفة ودكار كانت عشرة فقط، قد تكون أكثر، فقد كنت أنام بشكل متقطع، بيد أنها لا تنافس تلك الحفر العميقة الموجودة على طرقاتنا. شجرة الباوباب العملاقة سحرتني، أغصانها المتفرعة جهة السماء تكاد تشبه أحلامي، وجذعها الثابت في الأرض، جعلني أدرك أن جذورنا كلما غاصت في أعماق أرضنا، كلما استطعنا الوقوف بشموخ كشجرة الباوباب العملاقة. بمدخل دكار فاجئتني العمارات المتوثبة، والجسور المعلقة، والطرق السريعة، يبدو أن دكار مدينة تحب الحياة وتحبها الحياة أيضا، الناس في الشوارع؛ يستمتعون بمزاولة أعمالهم ويزاحمون الشمس والبرد بكل شغف... عندما وقفت داخل رأس التمثال المرتفع، تجلت مدينة دكار من الأعلى وهي تصافح البحر بكل حب، شوارعها أنيقة وتعرف وجهتها. وسكانها يجدون متنفسا رائعا من المدينة يتفسحون فيه، السياح يزورون المدينة بغزارة وخاصة جزيرة غوري القريبة من دكار. حيث كان الأرقاء يكبلون بالسلاسل الثقيلة، ويسحبون عنوة من أراضيهم وأحبابهم وثقافتهم ويكدسون في السفن نحو بلاد بعيدة وغريبة في أكبر مظلمة تاريخية بحق الانسان، ربما لم يعتذر عنها أحفاد تجار الرقيق بعد، بل مازالوا يمجدون تاريخهم الاستعماري. دموع العبيد الذائبة بداخل جزيرة غوري اكسبتها سحرا غامضا للغاية؛ إنها جزيرة صغيرة يتعايش المسلمون والمسيحيون فيها بكل سلام، تمنيت لو أنني أمتلكت فيها منزلا أسكنه شهورا، حتى أكتب رواية عن أبطالها الذين تركوا دموعهم ذائبة في الجزيرة، مثلما تركها أحفادهم وهو يركبون قوارب الموت نحو الشمال... هنا دكار (القلعة). الساعة 01:41 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

بقلم خالد الفاظل

إعلانات

 

 

 

تابعنا على فيسبوك