نحن والآخر : تأصيل وتحرير
بجمع هذه الحلقة مع سابقتيها الخامسة (الدين والسياسة، أي علاقة) والسادسة (الاسلام والديمقراطية) تتحد معالم المقاربة المعتمدة في أساسيات الفكر السياسي.
لقد ظل الموقف من الآخر مثار جدل وخلاف، بين المدارس الإسلامية تاريخيا وفي واقعنا اليوم، وكغيره من المواضيع الإشكالية عرف مغالين ومتساهلين، عرف من ينظر إلى الآخر بعين الرفض والإقصاء والقطيعة، بما يترتب على ذلك من المنابذة والإلغاء، وعرف من ينخدع بالآخر ويستلب أمامه، ولا يرى في الخضوع له واتباعه بأسا، يسوغها اضطرارا، ثم يبررها اختيارا.
وبشيء من التحقيق والمقارنة والتدقيق يتبين أن للموضوع قواعد تضبطه، وسوابق تعين عليه، ومحاذير لا يناسب تجاهلها ولا المبالغة في شأنها.
أما القواعد الضابطة فأهمها أن الله لم يشأ إكراه الناس على الدين الحق، وسجل القرآن الكريم أخبار وأفكار أهل الباطل في مراحل تاريخية عديدة، ورسم الإطار الواضح والمحدد للعلاقة مع الآخر التي يحكمها فعله وسلوكه، لا معتقده وما يدين به.
إن من الآيات المحكمات التي لا يتطرق إليها النسخ - خلافا لرأي البعض المرجوح - قوله تعالى " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " فالتقرير أن " لا إكراه في الدين " عززته مشيئة الله المقتضية للتنوع ووجود الإيمان والكفر، والحق والباطل " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ "
وفي أول نماذج الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة، نظمت العلاقة مع الآخر الموجود في إطار هذه الدولة، على نحو يقوم على الاعتراف وإقرار التعددية في أكثر جوانبها حساسية ( الدينية )
" هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش و(أهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس"
وبعد ذكر المهاجرين وقبائل الأنصار وما يترتب على العقد الحاكم بينهم جاء في صحيفة المدينة:
" وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته" ثم واصلت الصحيفة تذكر مجموعات اليهود الأخرى مقرة لهم ما أقرت ليهود بني عوف.
والظاهر أن الإشكال في العلاقة مع هؤلاء حصل بفعل سلوكهم وغدرهم، لا دينهم وما يعتقدون، مما جعل بعض المعاصرين يرى أن أول تجسيد لدولة المواطنة كان في مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وقد حملت لنا النصوص الإسلامية الصحيحة موجهات عديدة تحكم العلاقة وتوجهها، منها اعتبار الكرامة الإنسانية التي تتأسس على معنى التكريم "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" ومشهورة هي مقولة الإمام علي بن أبي طالب رضي عنه أن الناس إما " أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"
ومخاطبة أهل الكتاب بالحسنى مطلوبة ماداموا مسالمين غير ظالمين "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"
ومنها الإنصاف والموضوعية "وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " وهم أنواع وأصناف "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"
وقد انتبه باحثون إلى أسلوب عدم التعميم الذي انتهجه القرآن الكريم في الحديث عن غير المسلمين واستعمال عبارات (من) و (فريق) و (كثير) و (طائفة)
وقد وردت أحكام كثيرة تتعلق بأهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين توضح عدل الإسلام وتسامحه واستعداده للتعاطي مع الآخر ما كان مسالما غير معتد ولا محارب وقد شرح ابن حجر رحمه الله المعنى المقصود في التحذير من قتل المعاهد الوارد في حديث البخاري فقال : " والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم" فانتبه وقارن مع ما يفعله مستسهلو دماء المسلمين وغير المسلمين.
والواضح أن آيتي الممتحنة وضعتا قواعد التعامل والعلاقة وربطتهما بسلوك وعمل الآخر، لا دينه ومعتقده ومذهبه يقول الله تعالى : "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)"
وواضح هنا أن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ( أي لم يعتدوا ولم يحتلوا ) يستحقون البر والقسط، أو يجوز في حقهم البر والقسط....
وواضح أن النهي متوجه إلى الذين قاتلونا في ديننا وأخرجونا من ديارنا وظاهروا على ذلك، وتولي هؤلاء يجلب صفة الظلم والعياذ بالله.
إن العلاقة مع الآخر الذي تظله خيمة الوطن الجامعة هي علاقة مساكنة وتعايش وحقوق متبادلة وحق للأستاذ فهمي هويدي أن يعتبر عقد المواطنة في المجتمعات المتعددة دينيا متضمنا وبديلا عن عقد الذمة، وأن الحديث عن جزية يدفعها المواطنون غير المسلمين لم يعد في محله.
أما العلاقة مع الآخر في سياق العلاقات الدولية والعلاقة بين الشعوب والأمم فالإسلام يشجع التعارف والتفاهم والسلم وذاك الأصل الحضاري المعتمد، ويشرع للجهاد والمقاومة ضد المعتدين والمحتلين.