ذات مساء من شهر مايو عام 2013 كنت أجلس على كرسي المشرف بإذاعة أجواء. مايو من أجمل الشهور في مدينة بنغازي ذات المناخ المتوسطي، تعتدل درجات الحرارة، وتلتقي أنسام البحر بالطباع السمحة لأهالي بنغازي، وقد أطلقهم الربيع من سجن الشتاء القارس.
استبد بي الحماس فجأة وأنا أتابع اتصالات الشباب بأعضاء المؤتمر الوطني التي ننشرها على صفحة أجواء لبلاد تباعا؛ "لقد أقر قانون العزل السياسي" في جلسة المؤتمر الوطني العام. كتبت على صفحتي في الفيس بوك بنفس النشوة: "لقد فعلها الليبيون، لقد حموا ثورتهم.. ها قد أطاحوا مرة أخرى بالقذافي". أشهرا قليلة بعد ذلك بدأ النفس الإقصائي للقانون يعطي المفعول السحري في تدمير كل ما حاولت يد الدولة الليبية الوليدة إنشاءه.
ابتعد الرئيس المناضل محمد المقريف عن رئاسة المؤتمر الوطني العام، وغادرت معه خبرة أكثر من ثلاثة عقود في دواليب السياسة الدولية، وتبعه المحامي المخضرم جمعة عتيقة، واستبعد الدكتور محمد جبريل رحمه الله، وخبرته الإدارية وعلاقاته.. ورمت المقصلة عشرات القيادات السياسية والإدارية في الدولة الليبية. كان القانون قاسيا، حرم ليبيين كثرا من التعبير عن أسفهم على العمل مع القذافي، وحرم ليبيا من خبرات كثير من أبنائها، الذين تكونوا بأموال ليبية، وحلموا يوما أن يخدموها.
بعد سنوات لقيت عراقيين من مختلف الأطياف، وكانت الحسرة تأكل قلوبهم جراء اجتثاث "قانون اجتثاث البعث" كل الخبرات الفنية الذين كانت علاقتهم بحزب البعث لا تتعدى كونهم موظفين في دولة يحكمها حزب البعث. وما زالت الدولة العراقية تعاني غياب تلك الكفاءات.
تعود إلى ذهني عشرات الصور التي شاهدتها طيلة سبع سنوات من العمل على الملف الليبي، وتلك التي رويتها عن عراقيين، كلما رأيت من يدعو إلى توسيع دائرة المشمولين في التحقيقات في ملفات العشرية المنصرمة.
اسود يوم العراق وغده، وازدادت وتيرة الحرب الأهلية في ليبيا، لكن نجت تونس التي رفض معارضها الأبرز راشد الغنوشي أن يعزل خصومه السياسيين بعد عشرين سنة من تشريده.
إن هذه الدعوات العاطفية على طهوريتها ونبل غايتها لا تعي، أو لا يعي أصحابها أن بناء الدول يحتاج تراكما لا يسعف فيه غير خبرات الأشخاص، الذين يتحولون مع الزمن إلى ذاكرة إدارية للدولة، أو للمواقع التي عملوا بها.
ويحبو الله بعض الأشخاص بميزات نادرة لا تتكرر في آلاف، ولا في عشرات الآلاف من الأشخاص، وذلك هو مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة". إن هذا التعبير القادم من مشكاة النبوة يختزل حقيقة كبرى يعرفها كل من عالج إدارة البشر، ومن تأمل معارفه الذين يتعامل معهم يوميا وجد مصداقها حتى في العلاقات الاجتماعية.
وإلا كيف نفسر أننا في طول البلاد وعرضها ومن بين عشرات الأطر الذين نستمع إليهم يوميا يتحدثون في مواضيع شتى، من بين كل ذلك لا يعلق بالذهن إلا واحد أو اثنان. إن المشاريع السياسية التي تضحي بكفاءة جراء شبهة لما تتضح وجهتها بعد لهي مشاريع حري بها أن تزول من صفحة التاريخ بلا أثر.
تابعت زيارة رئيس الجمهورية إلى الزويرات، والإنجازات الهائلة التي تحققت للشركة الوطنية للصناعة والمناجم، وتساءلت في نفسي: ما ذا لو أطاع الرئيس كل تلك الحملات الشعواء التي شنت على الأستاذ المختار ولد اجاي واستغنى عن خدمات رجل بمثل هذه الفاعلية؟ هل كانت سنيم ستعبر كل هذه المسافة في عام؟ ما يقال عن ولد اجاي يقال عن كثيرين من أطر موريتانيا ممن خدموا مع أنظمتها المختلفة، ووقع بعضهم في أخطاء، وأوقع آخرون في أخطاء غفلة أو ضعفا، أو تأولا، والاستغناء عنهم إفراغ للبلد من ذاكرة إدارية غنية بالمشاريع، وبالمحاولات الناجحة.
لم يعقم الوطن أن يلد كفاءة غير فلان أو علان، وسيظل ولودا للرواحل، منتجا للكفاءات، ولن يستغنى عن خبرة إلا وجد من يسدها، ولكن هل التغيير هدف في حد ذاته؟ أم أنه لهدف يحققه أو يكون عبثا من الفعل تنأى عنه الأنظمة الراشدة.
إن مصطلحات مثل "التدوير" و"إعادة الثقة في..".. وغيرها سهلة القول، رنانة في آذان السامعين، وقد تكون جلابة للإعجابات والتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها قليلة الغناء في بناء الدول، ضعيفة التأثير في صناعة مستقبل التنمية والرفاه.
يحتاج التغيير الذي يراد له الرسوخ إلى النظر العميق في مصائر الثورات والتغييرات المتسرعة، وإن نظاما تعالت قيادته عن الشبه، وترفعت عن السفاسف، سوف يغير قناعات كثير ممن عملوا في سياقات مختلفة، ويحولهم بتؤدة إلى عاملين لمصلحة الوطن؛ فـ"السلطان سوق يجلب إليه ما يروج فيه".