تبين الأرقام والإحصائيات المتداولة بأن اللغة الفرنسية في تراجع مستمر، وأنها لم تعد لغة تواصل عالمي أو لغة علوم، بل أصبحت مجرد لغة للفرنسيين وقليل ممن لا يزال يدور في فلك فرنسا، وربما يتخلى عنها الفرنسيون أنفسهم في السنوات والعقود القادمة، وقد بدأت بعض ملامح ذلك التخلي تتجلى.
فلماذا نظل نحن في هذه البلاد نتمسك بلغة لا مستقبل لها؟ فلا هي بلغتنا الأم حتى نكون ملزمين بالتمسك بها في ظل تراجعها عالميا. إنها مجرد لغة دولة استعمرتنا لفترة من الزمن، ولم تكن من خيرة الدول الاستعمارية، ولا خير في أي دولة استعمارية، فلا هي تركت لنا بنية تحتية كما فعل مستعمرون آخرون في مستعمراتهم، وكما فعلت هي في مستعمرات أخرى، ولا هي احترمت اليوم مشاعرنا كمسلمين، ولكم في التصريحات المتكررة المسيئة للإسلام، والتي يطلقها الرئيس الفرنسي من حين لآخر خير دليل على عدم احترامها لمشاعرنا.
لقد دفعنا منذ استقلالنا وحتى اليوم كلفة كبيرة وكبيرة جدا بسبب تمسكنا باللغة الفرنسية، وعلينا من الآن ـ إن أردنا أن نخفف من حجم خسائرنا ـ أن نتوقف عن مواصلة التمسك بهذه اللغة التي تحتضر، والتي لم تعد لغة تكنولوجيا ولا لغة اقتصاد ولا لغة معلوماتية..إنها لم تعد أكثر من لغة للفرنسيين ولمن يدور في فلكهم.
إليكم هذا الجرد السريع ببعض الخسائر التي تكبدناها خلال الستين سنة الماضية بسبب تمسكنا باللغة الفرنسية.
1 ـ لم نستطع بعد ستين سنة من الاستقلال أن نجعل من اللغة العربية لغة رسمية بالفعل للبلاد، وكما ينص على ذلك الدستور الموريتاني، وذلك بسبب تمسكنا باللغة الفرنسية، والتي ما تزال تزاحم اللغة الرسمية بقوة في الإدارة وفي سوق العمل. يكفي أن نعرف بأن اللغة الفرنسية يخلد يومها في هذه البلاد بأسبوع كامل من الأنشطة وبحضور الوزراء وبرعاية أغلب المؤسسات العمومية والبنوك وشرائك الاتصال، بينما يخلد يوم اللغة العربية بساعات محدودة، وبحضور موظف عادي من وزارة الثقافة وقد لا يحضر أصلا، ودون أي رعاية من أي شركة وطنية. نفس التهميش الرسمي وغياب الداعمين يحدث عند الاحتفال باليوم الدولي للبقرة (تظاهرة ثقافية للفلان)، وكذلك عند المهرجان السنونكي للمرأة الموريتانية. نفس هذا الغياب يتم تسجيله كذلك عند أي نشاط له صلة بالمديح النبوي. فقط تقوم قيامة موريتانيا الرسمية ومؤسساتها العمومية وشركاتها الخاصة عند تخليد يوم ـ عفوا ـ أسبوع اللغة الفرنسية!!
ويبقى المثال الأبرز الذي يمكن تقديمه على أن اللغة العربية ليست عمليا هي اللغة الرسمية في هذه البلاد، هو تلك العقوبة التي تعرض لها عامل في شركة اسنيم في شهر مارس من العام 2018، وذلك لأنه طلب ترجمة استفسار وجه إليه باللغة الرسمية لسنيم (اللغة الفرنسية) إلى اللغة العربية التي يفهمها، فكان الرد أن عوقب بالتوقيف عن العمل لمدة ستة أيام، ولولا الحملة الإعلامية التي أطلقها في ذلك بعض المدافعين عن اللغة الرسمية للبلاد، لكان مصير هذا العامل الفصل النهائي من الشركة.
إن الاكتفاء بما في المادة السادسة من الدستور الموريتاني لا يكفي لجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، فاللغة التي تتحكم في سوق العمل ـ عموميا كان أو خصوصيا ـ هي اللغة التي سيهتم بها المواطنون، وهي اللغة التي ستكون رسمية على أرض الواقع، حتى وإن كان لا ذكر لها في دستور البلاد، كما هو الحال بالنسبة للغة الفرنسية.
2 ـ لم نستطع بعد ستين سنة من الاستقلال أن نطور لغاتنا الوطنية، والسبب أيضا هو تمسكنا باللغة الفرنسية. ولعل خير دليل على ذلك هو ما أثارته مؤخرا إضافة المادة 61 للنظام الداخلي للجمعية الوطنية والتي تقول بالنص :"توفر إدارة الجمعية الوطنية الترجمة الفورية لمداولات البرلمان باللغات الوطنية" . إضافة هذه المادة التي تأخرت كثيرا، والتي لاشك بأنها ستساهم كثيرا في تطوير لغاتنا الوطنية من خلال الترجمة الفورية، ومن خلال بث كل مداولات النواب مترجمة بلغاتنا الوطنية على قناة البرلمانية، إضافة هذه المادة أثار جدلا واسعا، ووقف ضده العديد من النواب الناطقين بلغاتنا الوطنية، وسبب ذلك هو أن إعطاء مساحة أوسع للغاتنا الوطنية داخل البرلمان سيؤدي إلى تقليص المساحة الممنوحة للغة الفرنسية، والتي ما كان لها أن تستخدم أصلا داخل قبة البرلمان، ففي كل برلمانات العالم تتم المداولات باللغة الرسمية فقط، أو باللغات الوطنية في بعض الأحيان.
3 ـ لم نستطع بعد ستين سنة من الاستقلال أن نستفيد من لغة العلم والعالم في زماننا هذا، أي اللغة الانجليزية. إن اللغة الانجليزية قد فرضت نفسها، ولذا فهي تستحق أن تكون لغة ثانية في الدول التي لها لغاتها الوطنية الحية كما هو الحال بالنسبة لنا، وتستحق أن تكون اللغة الأولى في الدول التي لا لغة وطنية حية لها. ولقد أحسن الرئيس الرواندي بول كيغامي عندما قلب التعليم في بلاده رأسا على عقب، فأبدل اللغة الفرنسية التي كانت سائدة هناك باللغة الانجليزية، وكان ذلك خلال مدة لم تتجاوز ست سنوات من 3008 إلى 2013. وقد بدأت رواندا تقطف بالفعل ثمار ذلك القرار الشجاع.
علينا أن نعترف بأننا لم نستطع ـ وبعد مرور ستين سنة على استقلالنا ـ أن نتحرر من الاستعمار الثقافي لفرنسا، ولا أن نتخلص من لغتها التي تتراجع عالميا بشكل سريع، فلا اللغة العربية أصبحت بالفعل لغة رسمية للبلاد، والسبب هو مضايقة اللغة الفرنسية لها، ولا لغاتنا الوطنية وجدت من التطوير والتدريس ما تستحق، والسبب أيضا هو مضايقة اللغة الفرنسية لها. كما أننا لم نستطع أن نستفيد من لغة العلم والعالم في هذا العصر، أي اللغة الانجليزية، والسبب طبعا هو تعلقنا الساذج والغبي باللغة الفرنسية، والتي ما زال بعضنا يعتقد ـ مخطئا ـ بأنها لغة علم ولغة تواصل عالمي.
ألم يحن الوقت لتصحيح هذا الخلل الذي كلفنا الكثير والكثير؟
ألم يحن الوقت لأن نمنح الأولوية للغة العربية حتى تصبح بحق هي اللغة الرسمية في هذه البلاد، ثم للغاتنا الوطنية حتى تصبح قابلة للتطوير والتدريس لغير الناطقين بها، ثم بعد ذلك للغة الانجليزية لغة العلم والعالم في هذا العصر، وذلك حتى ننفتح بحق على العالم وعلى لغة العلم فيه. إن بقي من بعد ذلك شيء من الوقت والجهد فلنخصصه لتعليم اللغة الفرنسية ولغيرها من اللغات، فتعليم اللغات هو أمر سيبقى مهما، ولكن يجب أن يكون ذلك حسب ترتيب الأولويات، والتي يجب أن تكون وفق التسلسل التالي:
ـ اللغة الرسمية أولا
ـ اللغات الوطنية ثانيا
ـ لغة الانفتاح على العلم والعالم ثالثا
بعد ذلك يمكن أن نفكر في اللغة الفرنسية أو في غيرها من اللغات الأخرى. أما أن نجعل اللغة الفرنسية التي تحتضر أولا وثانيا وثالثا على حساب لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية، ولغة الانفتاح على العالم، فمثل ذلك سيعني بأننا قد قلبنا الأولويات رأسا على عقب، وهو ما سيعني حتما بأننا سنتكبد المزيد من الخسائر التي لا طاقة لنا بها.
حفظ الله موريتانيا...