لا يمكن الوقوف في وجه موجات الإعلام الاجتماعي. فقضاياه تأتي محمّلة يوميا بشحنة من 'الهوية' أصحابها شديدو الحساسية. والإخفاقات في فضائه والنجاحات منسوبة لهويات أصحابها أكثر من فاعليها أنفسهم. ويتأكد تأثير هذا الأمر إذا ارتبط بيافطات مهنية أو اجتماعية لها تاريخ مع تراكم المظالم وسوء المعاملة. فتقصير الشرطي عنوان لمحاكمة قطاع الشرطة، وخطأ الطبيب إدانة لجميع الأطباء، وإهانة المواطن تأخد حجمها وأهميتها انطلاقا من فئته، ولونه، وانتمائه السياسي والقبلي (وفي الغرب، من كونه مسلمًا أو مهاجرًا أو امرأة أو من عرق معين؟).
فيمكن إذاً تفهم التعاطي العام مع 'الترندات' ذات العناوين الطبية من هذا المنطلق من قبل غير المختصين، في ظل ضعف الثقافة الصّحية (العلاجية بالذات) لدى المجتمع. فنحن في بلد رغم استيطانه من قبل الكثير الأمراض والأوبئة، وحداثة عهده بالمدنية، لا يُصدر فيه قطاع الصحة أي نشرية تثقيفية منتظمة، أسبوعية ولا حتى شهرية (ولو من ورقة واحدة). ولا توجد -في ما أعلم- لدى أي موقع إلكتروني فيه زاوية خاصة بالقضايا الصحية. ويطغى تناول الشأن السياسي على الصّحي بين روّاد فضاءه الاجتماعي من المختصين والمهنيين (بمن فيهم صاحب هذه السطور). ولكن ليس مقبولا ولا مفهومًا أن ينخرط الأطباء بشكل غير منضبط في مثل هذا السلوك في وسائل التواصل الاجتماعي. فتكوينهم المهنيّ والعلمي يجعلهم يدركون أن هذه الفضاءات ليست مؤهلة، على الأقل، لوضع التشخيص ونقاش الخطط والخيارات العلاجية المناسبة للحالات المرضية.
فمثلا، يمكن أن يكتب شخص ما: الطبيب الفلاني فعل لي كذا، من الأفاعيل السلبية. وهذا في أفضل توصيفاته 'تقييم خدمة طبية' Review لذلك المختص (شهادة من طرف واحد)، يستأنس بها في سياق تقييماته الموضوعية السّابقة واللاحقة، إن وجدت. وليس مناسبا لأهل النهى تداوله والبناء عليه للتشهير بهذا الطبيب أو ذاك، أحرى أن يجعلوا منه سببا لمحاكمة منتسبي قطاع كامل. ومع أنها 'حملات' لا تخلو من جانب رقابي إيجابي، في ظلّ كثرة اختلالات هذا القطاع، إن تحرّى كتّابها وقراؤها الموضوعية والإنصاف. إلا أنها ليست في غالبها سلوكًا مهنيّا ينتهجه الأطباء في إيصال رسائلهم ومطالبهم النبيلة.
قرأت في هذا الفضاء منذ يوم أمس تدوينات لزملاء محترمين، وكتاب بارزين، تعلّق على حالة مريض عويِن في ما يعرف ب 'طب كوبا' في انواذيبُ، ثم عولج لاحقاً (بخيار علاجي أمثل) من قبل أحد مختصّينا المتميزين. صاحبتها إشادة مستحقة بخبراتنا الوطنية وقدراتهم العلمية والمهنية، وحديث آخر عن ضعف امتيازاتهم مقابل امتيازات الأجانب العاملين في القطاع الصّحي. وقد وجدت ذلك فرصة للتعليق بملاحظة عامة حول الحديث المتكرر عن مدى الحاجة للطبيب الأجنبي، وعن بعض انعكاسات وجوده/غيابه على نوعية الخدمة الطبيّة.
أولاً، ليست لدي أي معلومات عن 'طب كوبا'؛ هل خصوصي أو عمومي؟ هل يعمل به أطباء كوبيون لصالح إدارة موريتانية أو العكس؟ ماهي إمكاناته التقنية والعلمية؟.. وبالتالي لا يمكنني، حيال هذه الحادثة أو غيرها، الحكم بترئته أو إدانته، إن صحّ أصلاً حكم إطلاقي بهذا الشكل.
في المقابل، لا شك أن هذه التدوينات تنطلق من منطلق سليم ومهم. وهو أن هناك خبرات موريتانية كثيرة داخل قطاع الصحة، تميّزت في الداخل والخارج، جديرة بالثقة وقادرة على النهوض بمهنتها لو وجدت تخطيطا ودعما مناسبيْن. وأن تعميم الحكم السلبي عليها بسبب الاختلالات الصحية الكثيرة داخل القطاع يفتقر إلى الدقة وإلى الموضوعية.
ومع ذلك، أرى أنه لا ينبغي لنا أن نوصل رسالتنا هذه، ونعالج الأحكام المجتمعية المسبقة حولنا، بنفس الطريقة التعميمية المختلّة التى صُنعت بها صورتنا النمطية السلبية في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل العامّة. خاصة أن هناك معطيات علمية ومحاذير مهنية أخلاقية تجعل أحكامًا تشخيصية وعلاجية من هذا النوع في الفضاء العام، في أحسن حالاتها، خلاف الأولى.
من ناحية أخرى، من المهم في خضم الدفاع عن الطبيب الوطني، والنضال من أجل أخذ مكانته اللائقة أن ننتبه لحاجة وطننا ومجتمعنا في الوقت الحالي، وفي المستقبل المنظور، للطبيب الأجنبي كرافد إضافي مهم لكوادرنا الطبية، ولخلق تنافسية إيجابية ضرورية داخل قطاع الصحة. وطننا يعاني من فقر كبير في عدد الكوادر الطبية، كما هو معلوم. هناك اختصاصات لا يوجد منها فرد واحد في بلدنا، وهناك المختصّ الواحد والمختصان والثلاثة في العديد من المجالات الحيوية (ولَك أن تقول الشيء نفسه عن الممرضين المختصين والمخبريين ومهندسي الأدوات الطبية، وغيرهم).. الضغط الشديد على العيادات والمستشفيات الخصوصية والعمومية ليس من صالح المواطن ولا الطبيب المهني. نحتاج كأطباء، طالما أن قيم الخصخصة باتت مسيطرة عالميًا على قطاع الطبابة، أن نشعر ب 'الخطر' التنافسي الإيجابي، لكي نحسّن من خبراتنا، ونجدّد معلوماتنا باستمرار، وننافس فوق ذلك بأخلاقنا المهنية. يمكن أن تجد خارج بلدنا في العمارة الواحدة 3 أو 4 مختصين في نفس المجال. وهي مرحلة لازلنا بعيدين منها جداً. شخصياً، أتقاسم الآن نفس الطابق مع شقة ملاصقة بها مركز لطب الأسنان يقدّم مثلي نفس الخدمات العلاجية. وكنت قبلها أعمل في مبنى في واشنطن به أربعة أطباء أسنان!
هذا النقص الحاد في الكوادر الطبية لا تستطيع كلية الطب تغطيته محليا في الأمد المنظور، ولابد لعلاجه برأيي من استجلاب وتوطين مختصين من البلدان التي بها كثافة أطباء كبيرة، مثل كوبا وسوريا. (وباعتقادي أن سوريا خيار جيد، لأسباب عديدة من أهمها سهولة التواصل اللغوي لمختصيها مع أغلبية مواطنينا). ولسنا بدعا في هذا الأمر؛ هذه مقاربة تبنتها وتتبناها دول عديدة لسد نقص المهنيّين، من أبرزها كندا والولايات المتحدة وألمانيا.. ولنا تاريخيا تجربتنا التعليمية المماثلة؛ باستجلاب المدرسين من تونس وسوريا والعراق..
للأسف، لا يزال العديد من زملائنا الفاعلين في قطاع الصحة يقفون حجر عثرة أمام هذه الأمر. وحتى في التعاطي مع الأطباء غير الموريتانيين الذين وصلوا البلد لأجل العمل في المجال الصّحي، مع أن منهم من لديه خبرات نحن بحاجة إليها (ولدي أمثلة). وتوجد لدى وزارة الصحّة رسائل صريحة من نقابات صحّية وطنية تحثّ فيها السلطات الرسميّة على منع انفتاحها في هذا الاتجاه، رغم اضطرارها للتعاقد مع أجانب في حالات محدودة. علينا أن ندرك، كمهنيين، أن النهوض بالطب وبالخدمات الطبية في بلادنا يبدأ من الكثرة والتنوع، وأن نتجاوز هذه النّظرة 'النّقابية' التي لا تخلو من أنانية للطبيب تجاه المواطن.
وختاماً، نعم، لدينا خبراتنا الطبية المتميزة علميّا ومهنيا وأخلاقيًا، وهي جديرة بالثقة والريادة والاحترام. والمحافظة عليها ب 'تثبيتها' داخل الوطن ودعمها أيسر وأقل تكلفة من 'تهجير' خبرات بنفس مستواها العلمي من بلدانهم الأصلية. ولكن لدينا، إضافة لمشاكل أخرى يعاني منها هذا القطاع، فقر حاد في عدد الكادر البشري، له انعكاساته على تخلّف وضعف الخدمات الصّحية (وخاصة في الداخل). ولا سبيل لإصلاحه دون خطة عملية لاستجلاب خبرات أجنبية، من الجوار القريب أو البعيد، تسد النقص وتحسّن من أجواء التنافس الإيجابي.