يصر بعض المشتغلين بالهم الإسلامي - وإن من خلفيات مختلفة - على أن الاسلام لا يقبل الديمقراطية، ولا يستطيع التعايش معها، وطائفة من هؤلاء توزع أحكام الحرمة والمنع على الانتخابات والأحزاب وسائر متعلقات العملية الديمقراطية، ويخلط البعض على نحو لا تسعفه العلمية بين الديمقراطية والعلمانية، ومن ناحية أخرى يصر بعض العلمانيين على أن المرجعية الدينية - وهي في حالتنا إسلامية - تناقض المفهوم الديمقراطي ولا تلتقي معه، وكل إسلامي في نظرهم يدعي الديمقراطية أو يقبلها، عاقد العزم على خلاف ذلك في الحال أو في المآل.
كل هذا يجعل هذا الحديث مبررا ومطلوبا، ولعلي مطالب في المبتدأ أن أعتمد تعريفا للديمقراطية به ألتزم في هذه المقارنة وعلى ضوئه يحاسبني القراء.
وفي الحقيقة التعريف الأول للديمقراطية واضح ومحدد وبسيط، فهي حكم الشعب بالشعب، وحتى لا أضيق على نفسي بإضافات المدرسة الليبرالية وسياق تطور الديمقراطية في ظلها، وما صاحبها من جراء ذلك مما لا يستطيع البعض تصور فصله عنها، أخلص إلى القول : إن جوهر الديمقراطية أن يكون الحكم صادرا عن الشعب، فمصدر الشرعية الوحيد هو الناس واختيارهم، ووسيلة العزل الوحيدة هي الناس وانتخابهم، وملحقات ذلك ومقتضياته المعروفة، فصلا بين السلطات، وتشريعا للتداول السلمي على السلطة، ومنحا للحقوق لكافة مكونات الشعب وقواه.
أما مادة الحكم وبرنامجه، أما القوانين وما تحويه فهذا يعود إلى اختيار أغلبية الناس، ولذلك نجد الديمقراطية تفضي إلى سلط مختلفة المرجعيات والهويات، والنماذج لا تخطئها العين.
ولأننا نريد في هذا الحديث تطبيع العلاقة بين الخطاب الاسلامي والديمقراطية، يكون مفيدا الإشارة إلى حقيقة فكرية مهمة، وهي أن الإسلام آثر الإجمال على التفصيل في الشأن السياسي، وأن البناء السياسي في الإسلام تحددت قواعده وموجهاته، ولم تتحدد طرائقه وإجراءاته، وأن للزمن وإضافاته، والمكان وخصوصياته، والفكر وتطوراته، تأثيرا في الاجتهاد السياسي في الاسلام.
ولأن الذين يرفضون المصالحة بين الاسلام والديمقراطية، يقدمون شبها واعتراضات، فإن الإجابة على هذه الشبه والتوضيح في شأن هذه الاعتراضات هو أفضل المداخل لحديث الاسلام والديمقراطية هذا، يتلخص جوهر هذه الشبه والاعتراصات في أن مصدر التشريع في الديمقراطية الناس، أما في الاسلام فالوحي، وتتيح الديمقراطية حرية التعبير مطلقا، وفي الاسلام تعبير جائز وتعبير محرم، والاسلام دين شامل للحياة، والديمقراطية تقوم على الفصل بين الدين والدولة، كما أنها تساوي بين الناس، والاسلام لا يساوي بين العالم والجاهل، أو بين أهل الحل والعقد وغيرهم، والديمقراطية تعتبر معيار الأكثرية لا الدليل والبرهان، والاسلام يريد الحق ولو قل أهله.....
وهذا ما لدي لمناقشة هذه الشبه والاعتراضات:
1 - يخطيء من يعتبر الديمقراطية دينا أو مذهبا مقابلا للإسلام، وعقائده وأصوله، فلا يردان على نفس المحل، وإن وردا ففي مجال عفو الاسلام وسعته، والدائرة الإجرائية التنظيمية للديمقراطية، فكان ورود تكامل لا تناقض، وتناغم لا تعارض.
فالاسلام إجابة على أسئلة الإنسان كلها في الوجود والأصل والمصير، في الاعتقاد والأخلاق والحياة، في العبادات تفصيلا، وفي الشأن العام قواعد وكليات وموجهات، أما الديمقراطية فأسلوب لتنظيم الشأن السياسي وشكل الحكم، لا تتدخل في عقائد الناس، وبالتالي تتكيف معها على اختلافها، وتتيح لكل مجتمع أن يعبر من خلال تياره العام أو أغلبية أهله، عن منهج الحكم ومضمون القوانين.
2 - القول بأن الديمقراطية تعتبر الناس مصدر التشريع، خلافا لمصدرية الوحي في الاسلام، قول غير ناهض، ولعلي مطالب هنا بتوضيح مقاربة مهمة في الفكر السياسي الاسلامي، وهي التفريق بين مصدر الشرعية ومصدر التشريع، فمصدر الشرعية هو الناس وقد كان ذلك واضحا في اختيار الخلفاء الراشدين كلهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحا في التصويب والتصحيح، ففي الصحيح " بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر لبايعت فلانا، فلا يفرق امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا "
ورحم الله شيخ الاسلام ابن تيمية حين اعتبر أن الخلافة انعقدت لعمر ببيعة وقبول المسلمين في المسجد، لا بوصية الصديق رضي الله عنه، وقد عبر أحد المعاصرين عن تلك الحادثة بوصف الوصية أنها ترشيح وأن بيعة المسجد انتخاب، مع ما يمكن من ملاحظته من عدم حذر منهجي في هذا التنزيل.
أما مصدر التشريع فهو الوحي بأصوله ومقاصده وأحكامه، وهنا لابد من التمييز بين الملزم وهو الكتاب والسنة، وبين اجتهادات المسلمين وعلمائهم التي تعين وتفيد وترشد.
والديمقراطية - للعلم - تحدد الآلية التي يختار بها الناس كيف يشرعون، وعلى أي أصل يعتمدون في ذلك التشريع، ألا ترون ذلك الجدل الواسع عند كتابة الدساتير في بعض بلداننا حول مرجعية التشريع، هل هي للشريعة الإسلامية حصرا أو أساسا، أم لاتذكر سكوتا عنها أو إلغاء لها ........ ألا يؤكد ذلك أن مرجعية التشريع تتقرر حسب التوجه العام للمجتمع ويمكن أن تكون الوحي أو الوضع، وبالتالي فالديمقراطية تحسم في مصدر الشرعية وهنا تتفق مع قواعد الإسلام ودرس الخلافة الراشدة، كما تحدد كيف يختار مصدر التشريع.
3 - غريب هو موضوع الناس ودرجاتهم، وأن فيهم عامة وخاصة، وعلماء وجهلة، ورجالا ونساء، وأن الديمقراطية تجعل الجميع في نفس الدرجة، بينما الاسلام يفرق ويفصل، والحقيقة أنه لا الاسلام يفرق في الشأن العام (اختيار من يحكم) ولا الديمقراطية تسوي بين الناس، أما أن الاسلام لايفرق بين الجماهير في اختيار من يحكمهم، فواضح من البيعة التي تكون في المسجد ولا حاجب يمنع العامة أو غير العلماء .... ومشهور ما فعله سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أثناء مشاوراته بعد مقتل عمر رضي الله عنه " فما ترك أحدا من المهاجرين و الأنصار، وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاعهم، إلا وسألهم واستشارهم" وكان سؤاله "من ترى الخليفة بعد عمر" وكذلك في الديمقراطية هناك من يرشح والناس تختار، والنخبة والأحزاب وأهل الرأي يمتازون عن المواطن العادي الذي لايتعدى دوره غالبا أن يختار من بين خيارات.
4 - أما موضوع الأكثرية والأقلية والاختلاف حول اعتماد البرهان والدليل، فموضوع يحتاج تحريرا، فالدليل يتعلق بمادة الحوار والتداول، أما الأكثرية والأقلية فتتعلق بالحسم عند الاختيار، ولا تقابل أو تناقض بين الاثنين، والأكثرية معتبرة علما وسياسة، قال الامام الرازي "الخبر الذي يكون رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك" وقال الباجي "فثبت أن لكثرة العدد تأثيرا في الترجيح" وأورد الامام ابن القيم منقولا عن الإمام الشافعي متحدثا عن الصحابة "فإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر" أما في المجال السياسي فأكتفي بما أورده ابن سعد في طبقاته "قال عمر لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم، فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى، وإن كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر"
من هنا فإن أكثرية المسلمين معتبرة، ونحن نتحدث عن ديمقراطية في مجتمعات إسلامية، ولا فرق في الحقوق في الشأن العام، وإنما التفريق في مجالات التخصص وما تعلق بها من شورى ومشاورة.
إن عادة الاسلام مع النبتات الحضارية المفيدة هي الانفتاح عليها واستيعابها والمصالحة معها، والديمقراطية إذا حررت من المصاحبات الإيديولوجية التي تنتمي لفضاءات أصحابها، إضافة من أنبل الإضافات الحضارية، ومجالها (التنظيم السياسي وشكل الحكم) من مجالات العفو الواسعة في التصور الاسلامي، ومن هنا كان التلاقي ممكنا بل وواردا ومطلوبا، ولا عبرة بمن يقول بالتلاغي والتعارض وحججه مردودة مثخنة بالجراح.