بُعيد تشكيل الحكومة السابقة والتي ظهر فيها تفكيك قطاع التهذيب إلى وزارتين ليكون بذلك التعليم ممثلا بثلاث وزارات؛ كتبتُ مقالا في شكل رسالة حمل عنوان .. إلى وزير التعليم الأساسي؛ وكنت مستبشرا حينها كما غيري بهذا الفصل الذي كان من شأنه أن يَحُدَّ من صراع الإدارات ويُمايِزَ الأدوار ويُقلص زحام شخصيات القطاع حول الأفضلية والريادة والأحقية في القيادة، وهي جدلية حتمية تغذيها افتراضات وتشبع يُؤسَّسُ على شيء أحيانا ويكون عدمي السند في كثير من الأحيان، وستظل اللوحة كما هي ترى الوضاءة تارة ثم تعود أكثر قتامة؛ طالما أن هناك تداخل في الصلاحيات وتصادم للإدارات وطالما ظل هناك تفاضل مبني على خلفية الانتماء لأي القطاعين أساسيا كان أو ثانويا كمنطلق للكفاءة فقط دون المؤهلات المصاحبة والقدرات الأدائية والآثار التجريبية التي ترسمها كل عهدة إدارية أو تكليف بمأمورية.. في هذه الرسالة التي أشرت إليها في بداية هذه السطور كنت قد ذكرت سبعا وعشرين مقترحا لانتشال التعليم الأساسي من التردي والسقوط الذي يعيشه منذ عقود، وطبعا بدون معالجة المشاكل التي تعيق إصلاح التعليم الأساسي؛ أساسا لا يمكن أن نتوقع حصول تقدم إيجابي في المنظومة التربوية برمتها. إن مشكل الاكتظاظ في الفصول يعد عائقا كبيرا دون جودة التعليم، كما المدارس الوهمية الافتراضية نقيض التأسيس والعمل على إرساء دعائم المدرسة الجمهورية، ثم إن تدني أجور المدرسين وضعف قيمة علاواتهم التحفيزية جعل أداءهم يفتقد إلى الجودة والانتظام، وجعل صدى المنظومة يفتقر إلى الجدوائية لأن المدرس بطبيعته هو حجر الزاوية وبدون تحسين أوضاعه بشكل يضمن التحفيز الحقيقي والتثبيت الآمن داخل القطاع؛ لا يمكن تخيل أثر للتعليم بصورة إيجابية مثمرة ومؤثرة، وزاد من ترهل نتائج قطاع التعليم ذلك التراخي في تطبيق مبدأ العقوبة والمكافأة حتى صار الحضور والغياب عند البعض سواء، وزاد الأمر سوءا؛ تنافر العلاقة بين رابطات آباء التلاميذ وهيئات التدريس، وظهور فوارق اجتماعية كبيرة حتى أثناء الدرس وفي أوقات احتضان المدرسة للتلاميذ وهو الشيء الذي كان بالإمكان تلافيه من خلال توحيد الزَّي المدرسي، وتوجيه الكفالات المدرسية بشكل يذيب الفوارق الاجتماعية لدى التلاميذ على الأقل في ميدان الدراسة، ومن ناحية المدرس غاب التكوين المستمر الذي يعد سندا لا غنى عنه مما جعل عطاءه في تناقص، وكان إخلاصه يهتز وأداؤه يتذبذب كلما شاهد موسم التحويلات وما تُبِينُ عنه من تمييز سلبي وتجاوزات.. ينضاف إلى كل ما سبق ارتهان سياسة التعليم لعالم السياسة التي تُحَيِّدُ الكفاءات التربوية غالبا وتُغيبها عن مشهد التأثير فيقلُّ دورها في عملية التأطير تبعا لعدم فنية أومهنية ونزاهة من يتولون التسيير والتقدير والاختيار والتوجيه، ثم تصطدم تلك النواقص الآنفة مجتمعة بمحيط تربوي مشحون سلبا على التعليم وأهله وشارع تتسارع فيه وتيرة الجريمة ويكثر فيه وفي البيوت التي يؤدي إليها العنف ضد الأطفال، وتُحَطُ قيمة التربية الإسلامية في التعاملات المدرسية مما يجعل التهذيب ضعيفا والتعليم استنادا إلى ذلك مقتول الأداء ومحاصرا بالمجابهة المعيقة والمطبَّات المنهِكة. إن المرحلة الحالية تعد حاسمة وهي المرحلة التي تم فيها دمج قطاعي التعليم الأساسي والثانوي في قطاع واحد وهو الإجراء المقنع خاصة إذا نظرنا إلى طبيعة الموارد وحجم الصعوبات المصاحبة لكل قطاع؛ مع إدراكنا أن التخطيط والتأسيس للإصلاح يبدأ من التعليم القاعدي الأساسي والتمويل يستهدفه بدرجة أكبر، وبالتالي صعوبة وقوف التعليم الثانوي لوحده، لكن هذا الدمج الذي نرجو أن يكون قرارا أخيرا في رحلة التفكيك والضم والدمج التي تعيد القطاع دوما خطوات إلى الوراء ولو إجرائيا؛ عليه أن لا يكون سببا في إقصاء كوادر التعليم الأساسي من الريادة والتأثير وتقلد المسؤوليات التي يتوقف عليها إصلاح التعليم الذي يعنى به قطاعهم قبل غيره ويُضمن نجاحه من خلاله وتتوقف قاطرته ويعلن موته عند عجزه عن انتشاله، وعليه أن يؤسس على دعامة صلبة تنطلق إضافة إلى معالجة كل النقاط التي سبق ذكرها؛ معالجة مشكل التعليم الخصوصي باحتضانه احتضانا حقيقيا يجعل المدرسة الجمهورية مكفولة من طرف الدولة بكامل الرعاية والتدبير دون إقصاء المستثمرين فيه ولا المدرسين حسب الإمكان، وتمكين المفتشيات والإدارات الجهوية من وسائل التنقل والمتابعة والتأطير ومن خلالهم للمدرس وسائل الإيضاح والتدريس؛ إلى جانب تهيئة البنية العمرانية تهيئة تجعلها قادرة على احتواء التلاميذ وتنفيذ الخطط الكفيلة بإنجاح المدرسة الجمهورية النوعية والتي تأبى أي مظهر من مظاهر الاكتظاظ والهشاشة العمرانية؛ ثم إن مراجعة المناهج التربوية مراجعة جادة وإعادة النظر في طرق وآلية توفير الكتاب المدرسي قبل تسويقه أمر لا مناص منه لمن يريد إصلاح المنظومة التربوية ثم إنعاشها؛ فتوفير الكتاب المدرسي قبل الافتتاح المقبل أمر ضروري ويحتاج تسريع الإجراءات؛ مع العلم أن المراجعة الجادة تقتضي الأخذ في الحسبان نقاط مهمة جدا منها ما هو متعلق بالمقاربة المتبعة ومنها ما يتعلق بطبيعة المحتوى ومنها ما هو مرتبط بالشكل والحجم، إضافة إلى عدم الغفلة عن موضوع يعد الأهم والأكثر حساسية وارتباطا بالهوية؛ يتعلق باللغة الأم؛ الجامعة لهذا المجتمع(اللغة العربية)، فلغة الأم لا يمكن تحقيق نجاح حقيقي في ظل إقصائها، وإلى هذا تتنزل قيمة وضرورة إدخال اللغات الوطنية في المناهج التربوية، فأجيال الجمهورية الإسلامية الموريتانية ينبغي أن يكون تلاقيهم الثقافي والوطني على مقاعد الدرس قبل منابر السياسة ففي الأولى تزرع المحبة والقيم وعلى الثانية تتصارع الأيديولوجيات وتتضارب المصالح. أخيرا بقي أن نشير إلى أن التقويم المزمع للمعلمين سبقه تقويم أكبر في تاريخ مشهود مر عليه عقد وزيادة دون أن تخرج نتائجه أو تلاحظ فوائده وكان يومها مما يعد منقصة للمعلم وتخوينا له قبل تشخيص حاجة التكوين؛ ولذا وجبت إعادة النظر ولزوم تجديد التفكير حول الموضوع لعل العدول عنه يكون أظهر أو تكييفه يكون أنصف، وعلى مسؤولي القطاع القدامى الجدد أن يعوا جيدا أن أي تقييم لا ينطلق من مباشرة المفتشين الميدانيين ولا يعير بالا لملاحظات المديرين المسيرين للمدارس؛ يطرح كثيرا من التساؤل حول تقييم المعلم في ظل تغييب المفتش والمرشد؛ فلمَ وجود هؤلاء أصلا؟ ، وإذا كانت الثقة تجاههم ناقصة فلمَ لا يخضعون هم أيضا إلى تقويم من نوع آخر؟ ، خاصة إذا ما تسرب إلى الأذهان أو تناهت إلى المسامع حكايات واتهامات من الماضي المظلم لتسيير الوزارة الذي يثبت بالأسماء والصفات زبونية الإشراف وانتقاء الناجحين في المسابقات؟.