بين الفينة والأخرى يفتح نقاش حول موضوع المرأة والإشكاليات المتعلقة به خصوصا المساواة والمستوى الذي تصله حقوق المرأة في الإسلام، وأخيرا وبمناسبة مشروع قانون العنف ضد النساء والفتيات عاد البعض لهذا الموضوع، وبرز خطاب يركز على معاناة النساء وحاجتهن لقانون يحميهن ورؤية تنصفهن، ولم يتأخر خطاب آخر عن رده، فلا حاجة لقانون وهذه هجمة غربية خبيثة، وفي الاسلام ما يكفي من الحقوق للمرأة، ولم يكلف بعض هؤلاء أنفسهم لتحديد ذلك في ظل قراءات تأويلية متعددة للتصور الإسلامي للمرأة مكانة وحقوقا ودورا وآفاقا. وهنا وجدت هذا الموضوع الأولى بالتقديم في هذه السلسلة محاولا تجاوز ثنائية يسهم الكثيرون في ترسيخها، بين مدافعين عن المرأة ومنافحين عن الدين، منطلقا من أن الجمع ممكن وأن المقاربة التي أدافع عنها تجمع بين الوقوف عند ثوابت الدين (لا مظاهر التدين) والدفاع عن حقوق المرأة كاملة(لا الحقوق المتوهمة بحكم نظرة مستلبة) في المنطلقات: ليس خافيا أن الأصول الإسلامية حددت للمرأة شخصية مستقلة، فهي تدخل الدين بإرادتها وتبايع عن نفسها وتحاسب وحدها، ومن اللافت أنها في تاريخ الدعوة أول الأمر دخلت الدين ومركز الولاية والسيطرة الأسرية على كفره ، دخلت وأبوها كافر(أم حبيبة بنت أبي سفيان) ودخلت وزوجها كافر ( أم سليم بنت ملحان) ودخلت وأخوها كافر ( فطمة بنت الخطاب ) وسجل القرآن ذلك التمايز الواضح سواء كانت المرأة على حق "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" أو كانت على باطل "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ" والخطاب القرآني في ملمح دال كرر صيغتي المذكر والمؤنث في سلسلة الصفات الحميدة "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" ومعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن ذكر بعض النساء لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أنهن ذكرن في القرآن وثنين :أليس لنا ما نذكر به؟ وأكد الخطاب القرآني كذلك التكامل في الأدوار إيمانا ودعوة وعبادة وطاعة "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" وكانت المرأة حاضرة مشاركة في مجتمع النبوة - رغم الطابع القبلي والموروث القريب الثقيل - ولعل حديث مسلم من أكثر النصوص دلالة في هذا السياق والذي تقول فيه أم سلمة رضي الله عنها "..... فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : "أيها الناس" فقلت للجارية : استأخري عني، قالت : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء! فقلت : إني من الناس ....." والقولة المشهورة لابن حجر في ابن حزم بأنه لا يجازف في النقل كانت تعليقا على ذكره خبر الشفاء بن عبد الله التي ولاها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حسبة السوق، وحسبة السوق حينها من الولايات العامة. في التجليات : لقد أدت الثورة الفكرية والاجتماعية التي أحدثها الاسلام في شأن المرأة إلى تغييرات جوهرية سمحت بأن انتقلت المرأة من التردد بين الوأد والازدراء إلى مشاركة في الحياة، وقد نقلت لنا النصوص والروايات الصحيحة كثيرا من ذلك: فهي سند وقت الشدة والقلة، أمنا خديجة بنت خويلد من حديث أحمد "... آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس" وهي مستشارة عند الحاجة ( رأي أم سلمة بعد كتاب الصلح في الحديبية) وهي عالمة متبحرة عند السؤال فأمنا عائشة رضي الله عنها نموذج ومثال وقد اشتهرت باستدراكاتها على كبار الصحابة حتى ألف بدر الدين الزركشي كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" وهي مجاهدة مقاتلة عند التعين، "وكانت أم عمارة في يدها سيف صارم وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها وهي يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة وأم سليط وأم الحارث - حين انهزم الناس- يقاتلن....." كما روى المقريزي في إمتاعه. وهي ثابتة عند الامتحان والابتلاء وفي وجه المستبدين، لنستمع إلى أسماء ذات النطاقين رضي الله عنها وهي تخاطب الحجاج وقد قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ".... أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه " مسلم ولقد كان واضحا أن ما علق ببعض الأذهان وعند بعض الناس كان بسبب عادات الناس لا منطلقات الدين، ولعل ما روي عن أمير المؤمنين عمر يؤكد ذلك قال رضي الله عنه " .......... كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ..... " والعادات تتغير بتغير الجو والمحيط. لقد تمكن د.عبد الحليم أبو شقة في مؤلفه الضخم الرائع "تحرير المرأة في عصر الرسالة" من أن يؤصل لرؤية إسلامية متقدمة، فقراءته تزيح ستارة كثيفة صنعتها العادات وبعض مظاهر التدين، وحجبت بها هذا البعد التحرري المؤسس على الكتاب والسنة. في الخلاصات: ليس سهلا أن تواجه فهما غلب في أوساط الرجال، وتداوله أغلب الفقهاء، وشجعت عليه المخاوف من حركات استلاب ونزعات انحراف لا تخطئها العين في واقع المسلمين في هذا القرن والذي سبقه، ولكن الأمر متعين، ورحم الله الإمام محمد الغزالي حين فتح عيوننا وعقولنا في كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" فقال رحمه الله: " أكره البيوت الخالية من رباتها، إن ربة البيت روح ينفث الهناءة والمودة في جنباته، ويعين على تكوين إنسان سوي طيب، وكلما يشغل المرأة عن هذه الوظيفة يحتاج إلى دراسة ومراجعة، وإلى جانب هذه الحقيقة فإني أكره وأد البنت طفلة ، ووأدها وهي ناضجة المواهب مرجوة الخير لأمتها وأهلها " وبعد أن جال مع موضوع مسؤولية المرأة العامة قال :" ما دخل الذكورة والأنوثة هنا ؟ امرأة ذات دين خير من ذي لحية كفور ........إننا لسنا مكلفين بنقل عادات عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب " إن تحرير الرؤية الإسلامية مما علق بها من الفهوم الرجالية المبالغة في توظيف مقتضيات شرعية ثابتة كالولاية والقوامة أعطتها دلالات قسرية تسلطية، أصبح ضرورة متعينة، وأن يكون ذلك في إطار فلسفة من التكامل والتعاون بين الرجل والمرأة بعيدا عن مقاربة الصراع ومقاربة السيطرة، ويكون للنساء دور حقيقي واعد، ورحم الله د.حسن الترابي أحد أكبر منظري التحرير الإسلامي للمرأة حين ختم مذكرته "الأنثى والذكر ومثال الحياة" قائلا :" وتتدافع خطى أمة الإسلام ترتاد كلها بلوغ الهدف المثال، حيث تستقيم وترقى حياة النساء المسلمات مع أشقائهن الرجال، صادقات في العبادة والذكر، صالحات في العمل والخلق، صابرات في البلاء والجهاد، برات في الأسر، باحرات في العلوم، بارعات في الفنون، داهمات في المجتمع والمعاش، داعيات إلى الخير والعدل، دارجات مع الرجال رقيا إلى الله زلفى، والحمد لله رب العالمين " يبالغ بعض الطيبين في معارك مع مصطلحات وعناوين راجت في الأوساط النسوية، وهو معذور في بعض ذلك نظرا لما صاحب هذه العناوين غربيا وعندنا مما لا يقبله الدين وتأباه الأخلاق والفطر السليمة، ومن هذه العناوين : الحركة النسوية أو التوجهات النسوية التي لا يمكن أن نغفل دورها في الدفاع عن قضايا مشروعة للمرأة وعن دور أكثر فعالية لها، والمناسب في هذا المجال، النظر إلى المضامين، ومعاملة الناس بناء على ما يقولون لا بناء على ما يقوله من اشترك معهم في الإسم والعنوان وقد أعجبني ما كتبته د.تربه بنت عمار في مقالها الأخير عن النسوية: قراءة في دلالة التسمية حين ختمته قائلة:" ففي النسوية عندنا نعتمد منطلقات الكليات القرآنية ونضال الصحابيات، ومبايعتهن وهجرتهن وجهادهن، قبل أن يتحول المجتمع الإسلامي بقيادة عربية أحيت موروث القبيلة في نظرتها للأنثى إلى يوم أصبح الملك عضوضا والسلطة وراثية، وحل السيف محل الشورى واختفت معالم المرأة الإنسان إلى أنثى الجمال والمتعة والغواية" في الحلقة القادمة أتوقف إن شاء الله عند موضوعات ونصوص إشكالية، من أبرزها شهادة النساء وولاية الأمر العام.