يخفى على ذي بال أهمية استتباب الأمن في أي تجمع حضري؛ ومن هذه الأهمية تتنزل أهمية رجال الأمن وما يقومون به من دور في إرساء السكينة العامة والسهر على أمن وسلامة المواطن وحمايته وحماية ممتلكاته، وبالتالي نشر الأمان في ربوع الوطن، ومن الضروري جدا أن نفهم أن هذه المقاصد المدنية؛ آنفة الذكر هي الضرورة التي ألزمت وجود الأجهزة الأمنية التي يُناط بها فرضُ احترام القوانين والالتزام بتطبيقها سواء كان مبعثها ضروري إلزامي أو احترازي وقائي. كلنا يدرك أن مبدأ التعذيب محرم ومجرم في كل القوانين الدولية؛ ومعلوم في شرعنا الحنيف سقوط التكاليف مع وجود الإكراه أو التعذيب، فكيف بنا لا نقبل بتعذيب اللصوص وعتاة المجرمين المهددين للسلامة والأمن الذي يعد ضرورة لا تستقر الحياة في ظل غيابه أو اختلاله ونستسهل ما نشاهده من إهانة وتعذيب لمن خالفوا أو أخلوا بتنظيم احترازي وقائي، بل الأدهى من ذلك والأمر توثيق ذلك؛ والمبالغة فيه رغم وجود إمكانية تفادي الاحتكاك الذي قد يدفع ببعض المتحمسين للمجهول زيادة؛ خلطه مع فرض هيبة الدولة. ومن المهم جدا تسليط الضوء على طبيعة انتقاء العناصر الأمنية وظروفهم فترة التدريب، فغالبية هذه العناصر يدفع بها الأهل بعد فشل الرحلة الدراسية رغم قصرها أو بعد صدور ممارسات منافية للأخلاق؛ سرقة كانت أو أعمالا إجرامية أخرى، وهناك مقولة شهيرة تفيد أن من فسد مبكرا على ذويه إلحاقه بالجيش تحديدا كي يُصلحه، وطبعا ليس في هذا عيب بطبيعته المحضة، لكن العيب في قصور التكوين بعد ذلك عن تغيير عقلية هؤلاء الأفراد وتصحيح مسار تفكيرهم وتهذيب سلوكهم، وطبعا الملاحظ كالعادة هو التركيز على التأهيل البدني بالدرجة الأولى وهو ما يظهر جليا في المستقبل على البنية البدنية والجاهزية والاندفاع، وفي المقابل فقر شديد في تغذية الجانب الروحي العقلي والذهني، مما ينعكس على تسيير الشخص لمتعلقاته الشخصية وروابطه البينة بمنطق القوة دون التفكير، فحري بجهات الإشراف والتأطير أن تركز أكثر على تعليم هؤلاء؛ قد يقول قائل أن ذلك عصي على من تجاوز سن التمدرس وفشل في مواكبة الحياة المدرسية بانتظام؛ وهنا نقول لهم بكل تأكيد أن الحاجة المهنية تولد الاختراع التربوي الفعال والتهذيب المؤثر بالأسلوب المناسب، فبالإمكان زرع كثير الأفكار الإيجابية تلقينا، وإكساب المستهدفين المهارات المفيدة لهم ولمجتمعهم تدريبا، وتكوينا، وإسهاما، ومشاركة، فالتركيز على جانب التهذيب فترة التكوين وما بعدها من فترات تقديم الخدمة خاصة بالنسبة لأولئك المخالطين للمواطنين المحتكين بهم أكثر؛ أمر بالغ الأهمية والإلحاح، وطبعا لا يمكن لنا ونحن نسوق كلامنا هذا أن يكون ردة فعل فقط رافضة لما لُوحظ مؤخرا من إفراط في استخدام القوة في غير وقتها ومحلها المناسب، لا يمكن لذلك أن يُعمينا عن التذكير بأن كُثر من أبناء هذه المؤسسات والهيئات الأمنية يتحلون بدرجة عالية من الانضباط والاحترام؛ الشيء الذي دفعنا إلى التشديد على الحالات السلبية المشاهدة كي لا تنتشر إساءتها فتعم النقمة كل من يشتركون معها في الخدمة والانتماء . صحيح أن جو التسامح والمصالحة مع الذات والوطن الذي نثره فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني منذ توليه مقاليد الحكم وإدارة شؤون البلاد بحكمته وتأنيه لم ينعكس لحد الساعة بما فيه الكفاية على كثير من مرافق الدولة وهو ما يجب تصحيحه الآن؛ قد نقبل على مضض بظهور هذا النوع من الحالات السيئة والمقززة المرفوضة جملة وتفصيلا في فترات تُدار فيها البلاد بعصبية وتشنج وعنجهية، ونكرر المقولة الشهيرة: (الرعية على قلب الراعي) أما والحال مختلف؛ فقد وجب التنبيه والتشديد على كل الضالعين وهنا تجر مأساة هذه القضية ذيلها على المسؤولين الأمنيين والمؤطرين والمدربين والمرشدين والمكونين؛ فكل هؤلاء يتحمل جزءا من مسؤولية ما يشاهد من أفعال مشينة، ولا نقول كالذي يُسلم بأن أخطاء الأفراد وقفية عليهم ولا تتحمل أجهزتهم التابعين لها مسؤوليتها، فالمسؤولية يتحملها الجميع حتى المواطن الضحية يتحمل جزءا من المسؤولية، والمدرس في مدرسته يتحمل جزءا منهما، والبائع في سوقه كذلك، والإمام في جماعته، فالكل إذا مسؤول عن جزئيات قد لا يحسبها تعنيه؛ لكن مادام مسرح الوقوع هو لوحة المجتمع، والفاعل أحد المنتمين إليه فالمسؤولية تقع على عاتق الجميع. نحن بحاجة ماسة إلى الجلوس مع الذات ومحاسبة أنفسنا فالخلل مُعشش منذ عقود في عقول ونفوس كثير ممن انبرى لتحمل المسؤوليات فينا وتقلد المناصب العليا العامة والمراكز الحساسة؛ قد لا يروق هذا الكلام لكثيرين لكنه حق أبلج، وواقع مر نعيشه غصبا عنا!!. بقى أن نشير في الأخير إلى أن الخطوة التي أقدم عليها التجمع العام لأمن الطرق كانت في محلها وقد تكون فعالة ورادعة في المستقبل لكل من يستمرئ فعلا مشينا، لكن في المستقبل ينبغي التركيز على زرع السلوك السليم تدريسا وتهذيبا قبل الرضوخ للعقوبة الفورية كحل لا مناص منه ولا بديل عنه، وعلى كل الأجهزة الأمنية الأخرى التي وُثِّق عناصر منها وهم يعتدون على مواطنين مهما كانت الدواعي والأسباب؛ أن تحذو ذات النهج.