استمعت مرات إلى تسجيل للنائب والحقوقي برام ولد الداه ولد اعبيدي وهو يعلل طلبا ورد إليه ممن أسماهم أطر من "لحراطين" يطالبونه بشجب ما قالوا إنه "منعهم من التعيينات" في مناصب الدولة، كما يرجوا دفاعه عن أفراد منهم فصلوا عن وظائفهم معتبرين، على لسانه، أنه إن فعل ظفروا بما يريدون. وقد خلصت إلى الملاحظات الشخصية التالية:
· الأولى، أن الحديث عن اختلالات التركيبة المجتمعية لبلاد "التناقضات الكبرى" هو حديث ذو شجون، وأن التستر على مكامن نقاط النقد اللاذع الصارخ في حقه لا يمكن الاستمرار فيه ولا في اللعب على حيفه وتكريسه الظلم والغبن والتباين بين قبائل وفئات وشرائح وطبقات المجتمع وقد بين برام ذلك بشدة وبراعة أصبح يمتلك منها جزء كبيرا ويغفل الجزء الآخر لحسابات تضيق عن مطلق الحق الحقوقي،
· الثانية، أن الزعيم أغفل في التسجيل، وهو العارف بمجتمعه وتركيبته، بحكم تخصصه وعمله طويلا في المحاكم قبل الانخراط في النضال الحقوقي ومن ثم السياسي، أغفل أن القبائل النافذة بقوة الجاه والمال والحضور السياسي قليلة، وأن حكمها نافذ على "الغالبية" العظمى من الدرجة الثانية ومن الموصومة بالدونية، ولو حاول البعض "منها" ترتيبيا في سلم النسب أن يرتفع وبعزم شديد، كما أشار إلى ذلك واستشهد بالدكتور الباحث ولد عبد الودود، إلى مستواها بتفاهمات مبتكرة ولكنها لم تستطع أن تقضي مطلقا على الفروق العميقة ولا على المستويات المتباينة بينها إذ:
ـ "ازناكي" مازال دون الجميع في السلم الاعتباري التراتبي،
ـ و"لمرابط" دون الزاوي في سلم التقييم المعرفي،
ـ و"الحساني" دون "لعربي" في قيم الفروسية والنبل،
ـ و"البربري" القح دون "العربي" نسبا وأهل ميراث الحرف.
الثالثة: أن النائب بيرام ولد الداه كان تقبل كثله مثل سائر زعامات المعارضة، الحكومة التكنوقراطية التي شكلها على غير ما الطريقة التقليدية الرئيس الفائز في الانتخابات، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني؛ حكومة أقدم فى تشكيلها، ولأول مرة ،على كسر فيها غير مسبوق لتقليد "المحاصصة" القبلية والاثنية المعتمد بشكل صارخ وثابت ويرتكز على الحضور "الدائم" لقبائل "شبه ثابتة" من "الصف الأول" في التشكيلات الحكومية تحت كل ظرف ورغم كل التحولات، فغاب بعضها لصالح كفاءات "تكنوقراطية" انحدرت من كل الشرائح والمكونات، الأمر الذي أغاظ زعامات تلك القبائل النافذة إلى حين.
وقد تلا ودعم هذه الخطوة، الفريدة والشجاعة، أمر ثان هام كان موضع استحسان شامل، شعبيا وسياسيا، تجسد في تفويض الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وزراء هده الحكومة كامل السلطة لتصور ووضع وتنفيذ سياسات قطاعاتهم على خلفية اعتماد مبدأي الجزاء والمحاسبة.
ثالثا: أن الحقوقي والسياسي ولد اعبيد يعلم علم اليقين أن القبلية المعشعشة في العقول والرابضة في النفوس هي محض سلوك مزدوج:
ـ جماعي، عند الممارسة السياسية، شديد التأثير في مواسم الاستحقاقات،
ـ وفردي بعدما يتسلم الوظيفةَ الأفرادُ منها الذين يتم تعيينهم وزراء وعلى رأس المؤسسات العمومية ذات الميزانيات الضخمة وإمكانات التعيين الكبيرة والفساد المشرعٍ.
حقيقة مرة مخلة تتكشف من بعد هذا التمكين على إثر التعديلات التي يقومون بها فورا داخل القطاعات أو ما يستحدثون من الاكتتاب فيها من ناحية، ويقدمون من التعيينات عند كل مجلس للوزراء حيث تتكشف الترقيات والتعيينات القبلية المنتقاة.
ولأن المزاج "قبلي فردي" في هذا التصرف الانتقائي المخل بروح عدالة دولة المواطنة يستمد قوته و"شرعيته" المفروضة باغتصاب "إملاءات" الجماعة التقليدية، فإن التوظيف والتعيين والترقية لا يكون إلا من حظ أفراد قلة من القبائل، فيما مصير أبناء الغالبية الأخرى هو تماما "مصير شرائحي" وليس إلا، يسقط معه اللون والانتماء بتاتا والعدل والانصاف على الرغم من إصرار كل إرادة صادقة.
ومهما يكن فإن منطق الواقع الذي أعقب العشرية ـ التي دمرت كل قيم الجمهورية وكرست ثم رسخت أكثر آثام الماضي دون فضائله ـ أصيب بارتجاج شديد بعد تشكيل الحكومة التكنوقراطية على أساسي:
ـ الكفاءة والخبرة والجدارة،
ـ ونظافة الأيدي من خطيئتي النهب والفساد،
ـ وتجديد دماء الحزب الحاكم بنفث روح وسطية مفتوحة على الحوار البناء والقبول بالرأي الآخر وبعده عن التدخل السافر في شؤون الدولة.
صحيح أن الطريق إلى الدولة المتصالحة مع مفهومها ما زال مفروشا بالأشواك ولكن النتائج التي تتحقق تباعا تبعث على الأمل في ولوج البلاد مرحلة جديدة مع تباشير التخلص شيئا فشيئا من علامات التقيد بأسباب غياب العدال وحتما أن الاشجار تقع إذا كانت جذورها ضعيفة.