"إن الفساد يطول عمره كلما انسحب الشرفاء من الميادين وآثروا السلامة وتخاذلوا فيفسحون
المجال للصغار التافهين البلطجية" ـ خيري شلبي
يحظى الفساد في هذه البلاد بغطاء دفاعي سميك يدق الأوتاد القبلية عميقا في تربة الماضي العصي على الانزياح، يربط حولها حبال مفاهيم "السيباتية" التي تتكئ لديمومة بقائها "الآثم" على جرأة السطو واستباحة المال المملوك للصالح العام بقوة "الحرف" المحرف عن مساره ونصل السيف الفالت من غمده، أو بكليهما للتقاسم.
لما استطاع المستعمر الفرنسي، وقد استعان بقلة ممن أدمى قلوبَهم ظلمُ الناس في الأرض فأرادوا الإصلاح، أن يضع قواعد الدولة الحديثة من لا دولة "السيبة" ويغرس بصعوبة أساسيات مفهومها وأبجديات النظام لديها في وجه الفوضى، فإنه لم يفلح في قتل النفسية الظالمة الرابضة في أعماق أغلب النفوس ولا تحرير منظومة السلوك من جني ثمار السطو والنهب وخيانة الأمانة، ومن العزوف عن العمل إلى سهل المحصول بالتحايل في المعاملات، والعجز عن مجهود الخلق والابداع في مجالات صنع مقومات الحياة الآمنة القوية التي تحقق الاستقلال و تهدي إلى مقاصد التكامل.
كما لم تستطع ستون عاما في كنف الاستقلال من الالتحام بالمدنية والسقي من روافدها المنحدرة من كل أفق مفتوح، ولا أن تنحت المواطن المدرك أهمية الدولة ويعمل بمقتضى إملاءاتها السامية ومنظومة سلوكها الراقية ونهجها القويم؛ ستون عاما تغير فيها الشكل قليلا وبقي اللب مطمورا بقشور الماضي على حاله يراوح بين الشدة على النظام ومفهوم الدولة وبين سطو مفرزة المنحدرين، من النظم المجتمعية التقليدية، على المقدرات وتبديدها بلا رقيب من ضمير يؤنب أو عقل يخشى الله ويحفظ الوطن.
ستون عاما لم يتوقف خلالها الفساد، الأمر الذي أسفر عن غياب سافر للبنى التحتية الأساسية من طرق وسكك حديد وخطوط بحرية وأساطيل وطنية، ومن ضعف المنشآت الرافعة كالسدود والجسور والأنفاق، ومن ومرافق خدمية ضرورية كالمستشفيات والمستوصفات والمدارس الجمهورية والمراكز المتخصصة، وغياب كل أنواع الصناعات من الخفيفة إلى التحويلية.
ولما أن وتيرة الفساد كانت تزداد أيضا، وعلى عكس المتوقع مع بروز النخب المتعلمة والمتخصصة، فإن الدعامات التقليدية كانت تزداد، وعلى العكس هي أيضا من الذي كان متوقعا على إثر زيادة الوعي، حيوية وقوة وتمكنا من النفوس لترسخ فيها أكثر كل آفات الماضي وتحجب طاقاتها عن أفق المشاركة في بناء دولة المواطنة والاسهام في إرساء العدالة والمساواة والتصدي للمفسدين الذين يبددون مال الشعب ويمرغون هيبة الدولة في الوحل.
ولقد استقوت وما زالت هذه الدعامات التي تنحت قوتها السلبية من منظومة الماضي بكل أوجهها السلبية وهي المتعلمة وقد كان معقودا عليها أمل التغيير والبناء لا الجمود على قوالب لا تلائم مفهوم الدولة، والهدم محل رفع قواعد التشييد.
وإن الواقع المر الذي صنعه فساد استمر بلا انقطاع طيلة عقود خلت وزادت وتيرته، بشكل أشد إيلاما وأعظم استنزافا للمقدرات والميزانيات، خلال العشرية المنصرمة، يجد في هذه الدعامات التي قوامها من:
ـ المثقفين أصحاب الشهادات العالية،
ـ والمتعلمين ذوي الإسهام المحسوس،
ـ والأطر من مختلف التخصصات وفي شتى المواقع،
ـ والإعلاميين الغير ملتزمين بمواثيق شرف المهنة،
ـ والأدباء أهل الغزارة في النظم والكتابة والمدح والإطراء،
ـ والضالعين في العلوم الشرعية على خلفية رفض التحيين وقراءة الواقع الماثل.
نعم إنهم هؤلاء، الذين يدافعون في هذه المرحلة التي برزت فيها إرادة طافحة للنظر في حجم الفساد الذي أقعد البلاد عن ركب الأمم وحسر ريع مقدراتها بأيدي قللة عن المفسدين عاثت فسادا، ويطالبون مستخدمين ملكاتهم الخطابية وقدراتهم الدفاعية بالامتناع عن متابعتهم وصرف النظر عن فسادهم والسكوت لهم على ما نهبوا بغير وجه حق حفاظا لهم على مكانة اجتماعية لا يطالها النقد ولو في أسوء حالات الفعل المسبب له.