طالب أستاذ التعاون الدولي والتنمية بجامعة نواكشوط الدكتور الصوفي ولد الشيباني بتأجيل التوقيع على الاتفاق بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي حول الهجرة.
جاء ذلك في مقال استعرض فيه تداعيات القرار وجواتب مختلفة حوله، وفي ما يلي نص المقال:
قبيل التوقيع على اتفاق بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي
بخصوص الهجرة
من المتوقع أن يتم التوقيع على اتفاق بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي بخصوصو الهجرة في نواكشوط في السابع من مارس الجاري . وكانت الساحة الوطنية قد رجت خلال الأسابيع الاخيرة بالتعليقات والكتابات والتعبير عن المخاوف من الأخطار التي قد تنجم عن اتفاق محتمل بين الطرفين بعد صدور مشروع اتفاق من الجانب الأوروبي بهذا الخصوص.
وقد جاء التوضيح الذي أصدرته وزارة الداخلية بخصوص تأكيد عدم تحول موريتانيا إلى وطن للمهاجرين وعدم المساومة على السيادة الوطنية في هذا المجال في وقت مناسب رغم انه لم يبدد تلك المخاوف بشكل كامل.
وقد فضلت تأخير نشر رأيي حول الموضوع حتى يقترب موعد توقيع الاتفاق لتتضح الصورة أكثر من جهة، و من جهة أخرى لتذكير السلطات المعنية بمسائل جوهرية حول الموضوع قبيل التوقيع على الاتفاق مباشرة.
حول هذا الإتفاق المتوقع بين الطرفين يجدر في رأيي التوقف عند النقاط التالية:
١. أن مسألة الهجرة سواء كانت نظامية اوغير نظامية هي معضلة ذات أبعاد عالمية من حيث أسبابها وتداعياتها و سياسات معالجتها، وقد ازدادت تعقيدا في ظل تنامي العولمة وترابط المصالح وتشابك العلاقات بين الدول وتنامي التحديات التي تلقي بظلالها على الجميع.
والهجرة من حيث الأساس لها أسباب تتعلق بالبلد الأصلي للمهاجر وتسمى عوامل طاردة منها الفقر وانعدام فرص العمل وضعف الخدمات والحروب الأهلية والإضطرابات والتهميش والشعور بالظلم وغياب العدالة والفساد..... ومنها أسباب تتعلق بالبلد الذي يمثل وجهة للمهاحر وتسمى عوامل جذب يأتي في مقدمتها توفر فرص العمل ومستوى الحياة الكريمة والشعور بالأمن والتمتع بالحقوق الأساسية والقدرة على بناء المستقبل....
من هذا المنطلق شهدنا أمواجا من المهاجرين تتدفق من البلدان الطاردة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى البلدان المستقبلة أساسا في أوروبا وأمريكا الشمالية ودول الخليج العربية.
غير أن العوامل الموجهة الهجرة غير جامدة بل إنها تتغير من وقت لآخر تبعا للظروف الإقتصادية والفرص المستقبلية في كل بلد. ولذلك فإن بعض الدول تتحول بسرعة إلى بلد مستقبل دون أن تكون بلدا متقدما أو غنيا حسب المقاييس المتعمدة في المجال.
وكما تؤكده تجارب الدول المختلفة فإن البلدان المستقبلة للمهاجرين تواجه مع الوقت ضغطا على مواردها وخدماتها والفرص المتاحة لأبنائها، بل وعلى تركيبتها السكانية وبنيتها الديمغرافية وأوضاعها الأمنية. وبالتالي تتحول مسألة الهجرة إليها إلى تحد وإلى عامل يهدد أمنها واستقرارها ونموها مما يدفعها للبحث عن حلول لها.
وعادة ما تتعاون الدول المتضررة من ذلك من أجل إيجاد حلول جماعية كما هي حالة دول الإتحاد الأوروبي التي تجعل معالجة الهجرة على رأس أولوياتها وسياساتها الجماعية وتسعى للتوصل لحلول مع الدول الطاردة للمهاجرين والدول التي هي معبر لهم إليها.
2. أن موريتانيا بحكم موقعها الجغرافي الذي يجعلها أقرب دولة غرب إفريقية مطلة على المحيط الأطلسي لأوروبا من الطبيعي أن تكون وجهة للمهاجرين العابرين إلى دول تلك القارة بغض النظر عن ما قد يمكثون من وقت على الأراضي المويتانية. وككل المهاجرين العابرين فإن هؤلاء المهاجرون سيسعون لتمويل رحلتهم من مداخيل العمل في البلاد مما يزاحم المواطنين ويقلص فرصهم، ويضغط على الخدمات المتاحة لهم.
ومع التغير المتوقع للأوضاع الاقتصادية في موريتانيا بفعل الإستغلال المرتقب للمزيد من الخيرات كالغاز و الهيدروجين الأخضر الواعد وغيرهما، فإنه من المتوقع أيضا أن تتحول إلى وجهة مستقبلة للمهاجرين بغرض الاستقرار فيها، وهو ما بدأنا نلمس مقدماته بوضوح في السنوات الأخيرة من خلال الزيادة المعتبرة في أعداد الوافدين من الدول الأفريقية التي تواجه مشكلات أمنية وسياسية واقتصاديةتدفع مواطنيها للهجرة منها.
وفي هذا المقام فقد كان أمرا طبيعيا أن لا تغلق موريتانيا حدودها ( مع الضوابط الأمنية المطلوبة طبعا) أمام الإخوة المهاجرين واللاجئين من دول شبه المنطقة خاصة أن لدينا أعدادا مهمة من مواطنينا يعملون في تلك الدول والكثير منهم مستقر بها، ولا يسعنا إلا أن نعاملها بالمثل كما هو معتمد بين الدول في هذا المجال.
3. أن موريتانيا ظلت منذ فترة تتحمل وحدها فاتورة اللاجئين القادمين إليها من الجارة مالي والذين وصل عددهم إلى قرابة 150000 ألف شخص، بالإضافة إلى أعباء القادمين إليها من الدول الإفريقية الأخرى سواء بغرض العمل بها أو بغرض العبور منها إلى أوروبا، ولا شك أن ذلك يحمل الدولة فاتورة كبيرة على الأصعدة المختلفة: إقتصادية وأمنية واجتماعية... ويزاحم مواطنيها في الفرص المتاحة لهم، ولذلك فمن الطبيعي أن تسعى لإيجاد من يقاسمها تحمل الأعباء والمخاطر المتزايدة الناتجة عن تنامي أعداد القادمين إليها.
وفي هذا الإطار فإن دول الإتحاد الأوروبي ستكون بطبيعة الحال هي المعني الأول نظرا لكونها هي وجهة المهاجرين الأفارقة وعليها ومن مصلحتها في نفس الوقت أن تتحمل جزء من الأعباء المتعلقة بهم وأن تساهم كذلك في إيجاد حلول مقبولة وعادلة لمشكلة المهاجرين غير النظاميين .
فالدول الأوروبية تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية وإنسانية عن الوضع الذي جعل الأفارقة يغادرون أوطانهم بحثا عن لقمة العيش وذلك بالنظر لما تسببت فيه من نهب خيرات بلدانهم ورعاية أنظمة الفساد والاستبداد فيها، وبالتالي فهي مطالبة بتحمل جزء كبير من الأعباء الناجمة عن هجرة مواطني تلك الدول خاصة أنها هي وجهة غالبيتهم الساحقة.
4 . أن التوضيحات التي أصدرتها وزارة الداخلية لم تكن كافية لتبديد مخاوف المواطنين التي عبروا عنها على نطاق واسع بخصوص احتمال تحول البلاد إلى مركز لإيواء المهاجرين غير النظاميين، لأن مصدر تلك المخاوف هو ما ورد في مشروع الاتفاق الذي نشره الأوروبيون قبيل بدء المفاوضات بين الطرفين في 19 فبراير المنصرم، والذي تضمن من بين أمور أخرى إمكانية استقبال ودمج المهاجرين في موريتانيا بما في ذلك إمكانية استقبالها واستيعابها لمهاجرين غير نظاميين من الدول الاوروبية، وكذلك ضرورة إلتزامها بالمعايير المعمول بها في الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بمنح حق اللجوء السياسي للمواطنين الأفارقة الذين يهجرون أوطانهم و يتواجدون في موريتانيا، وهي المسألة التي ستجعل بلادنا ملزمة بمنح حق اللجوء السياسي وما يترتب عليه لكل القادمين إليها من المضطهدين أو المشردين من بلدانهم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو اجتماعية...بل ولكل من أدعى شيئا من ذلك وقام بإتلاف وثائق إثبات هويته وهي المسألة التي يعمد إليها طالبوا حق اللجوء في العادة.
كما تضمن المشروع المقدم من طرف الاتحاد الاوروبي كذلك منح وضع استثنائي لقوة حرس الحدود وخفر السواحل الأوروبية FRONTEX الذين سيكونون غير خاضعين للولاية القضائية الموريتانية وملزمون بتطبيق القوانين السارية في دول الإتحاد الأوروبي في مجال حقوق الانسان، كما أن قراراتهم تفوق في مرتبتها قرارات نظرائهم الوطنيين، وهي أمور تمس السيادة الوطنية وتجعل جانبا مهما من الرقابة على حدودنا ومياهنا الإقليمية بيد قوات أجنبية لها أولوياتها ومناهجها في التعامل مع المهاجرين.
صحيح أن مجرد ورود تلك الأمور في الوثيقة المشروع لا يعني بالضرورة أنه سيتم الاتفاق عليها في نهاية المطاف، لكنه يعني أن مستوى معينا من النقاش والتداول حولها قد تم ، وإلا لما كان واردا أن تسمى مشروع اتفاق ولا أن تقدم للطرف الموريتاني، و لا أن تصدر بخصوصها توصية أساسية من البرلمان الأوروبي، ونحن نعرف جميعا أهمية توصيات البرلمان الأوروبي الموجهة للموضوضية الأوروبية ومحورية قرارته في ما يتعلق باتفاقيات التعاون.
كل ذلك يجعل المخاوف العبر عنها من قبل المواطنين مشروعة ويحتاج نفيها لأكثر من مجرد د تصريح أو بيان مقتضب من وزارة الداخلية.
5. رغم مشروعية تلك المخاوف التي عبر عنها الكثيرون، ساسة وخبراء و كتاب ومواطنون عاديون، و الذين قد يكون بعضهم بالغ في النقد والتوصيف، فإن المزايدة على وطنية البعض ليست مقبولة لأن مصلحة الوطن تعني الجميع وهي مسئولية الجميع، وخاصة الحكومة التي تدير البلاد ويقع على عاتقها مسئولية حماية مصالحها والدفاع عن سيادتها، وليس واردا تخوينها أو التحامل عليها واتهامها بالتنازل عن مصالح البلاد و القبول بتحويلها إلى ملاذ للمهاجرين القاصدين لأوروبا أو المسفرين منها.
فرغم خطورة الأمر وحساسيته، فإنه لا يوجد ما يدعو إلى التعامل معه بتلك النظرة، فالأصل هو أن الجميع متفق على أنه لا مساومة على تحويل البلاد إلى مركز لإيواء المهاجرين غير النظاميين تحت أي ظرف، ولا مجال أيضا لاستقبالها مهاجرين مرحلين من أوروبا أو اتخاذها معبرا لإعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية.
و في هذا المقام فإن الثقة في حرص رئيس الجمهورية على حماية مصلحة البلاد وعدم المساومة على أمنها واستقرارها ومستقبل أبنائها، و كذلك وقوفه عند مسؤولياته الدستورية في هذا المجال، كل ذلك يبعث على الإطمئنان بأن الاتفاق لن يتضمن بإذن الله ما يضر بمصالح البلاد ومستقبلها.
إن مبعث القلق والتخوف الموضوعي في نظري لا يتعلق بالرغبة في الاستجابة لمطالب الأوروبيين، وإنما يرجع لضعف آليات التفاوض وعدم توفر الخبرات والكفاءات اللازمة لدى بعض القائمين على عملية التفاوض ونقص الأهلية اللازمة لدى بعضهم في التعامل مع مثل هذه الملفات المعقدة والمتشعبة، خاصة أن لدينا تجارب مريرة في إبرام الإتفاقيات ذات الطبيعة المعقدة مع الجهات الأجنبية، كما حدث مع شركة وود سايد وشركة أرايز للحاويات وشركة كيرنوس الكندية ...، بل ومع الأوروبيين أنفسهم في مجال الصيد في فترات سابقة.
فتلك الأمثلة تبرر مخاوفنا وتملي ضرورة اليقظة والدراسة المتأنية والحصيفة لجوانب هذا الاتفاق المرتقب حتى نضمن انه سيكون سليما من كل ما يمس سيادتنا أو يهدد استقرار مجتمعنا في المستقبل أو يحول بلادنا إلى مركز لإيواء المهاجرين غير الشرعيين.
وبشكل محدد فإن أي اتفاق يوقع مع الاتحاد الأوروبي بخصوص الهجرة يجب أن يكون خاليا من المسائل التالية :
أ. الإلتزام باستقبال المهاجرين غير النظاميين من دول الإتحاد الأوروبي، أو القبول بإقامة مراكز لإيواء طالبي الهجرة واللجوء المتواجدين في موريتانيا ودمجهم في النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
ب. الإلتزام بمنح حق اللجوء السياسي للقادمين إلى البلاد بهدف الإقامة بها أو للعبور إلى بلدان آخرى.
ج. استثناء أي قوة أجنبية تتواجد على التراب الوطني من الخضوع للقوانين السارية المفعول في البلاد أو السماح بكل ما من شأنه المساس بقيمنا الإسلامية وخاصة في مجال حقوق الإنسان.
6. ان الدعم المالي المعلن الذي سيقدمه الاتحاد الأوروبي لبلادنا في إطار الاتفاق المنتظر، والذي يزيد غلافه المالي على500 مليون يورو، رغم أهميته، لا يمكن أن يعوض الأضرار والخسائر التي ستنجم عن إيواء المهاجرين واللاجئين والتكفل بدمجهم في النسيج الإقتصادي والإجتماعي وتأمين الخدمات الأساسية لهم على قدم المساواة مع المواطنبن، كما لا يمكنه أن يجنب البلاد التداعيات الأمنية والإقتصادية والاجتماعية وربما السياسية الخطيرة لإيواء المهاجرين واللاجئين خاصة مع التزايد المتوقع في أعدادهم بشكل كبير إذا ما تم توقيع اتفاق يتضمن تلك المحاذير لا قدر الله، حيث ستتحول بلادنا حينها إلى الوجهة الأولى للمهاجرين القاصدين لأوروبا ولأولئك الذين يريدون التمتع بوضع قانوني مريح في دولة المعبر ( موريتاتيا) التي ستتحول في وقت وجيز بفعل المزايا التي يمنحها الاتفاق، إلى دولة استقطاب للمهاجرين بهدف الاستقرار فيها.
بناء على ما تقدم فإن ضمان نجاح بلادنا في إبرام اتفاق موضوعي ومتوازن يحقق مصالحها ويصون استقرارها ومستقبل أبنائها ويحمي سيادتها وثوابتها يتطلب من السلطات الوطنية العمل على ما يلي:
أ. تأجيل الموعد المحدد سلفا للتوقيع على الاتفاق المرتقب حتى تتم دراسة المشروع دراسة متأنية ودقيقة من طرف فريق متعدد التخصصات يضم خبراء وذوي تجربة ذات مصداقية عالية في مثل هذه الملفات.
ب. الاستفادة من تجارب الدول التي سبق أن وقعت اتفاقات مماثلة مع الاتحاد الأوروبي بالخصوص وتلك التي رفضت ذلك وخاصة في محيطنا الإقليمي والتوقف عند الأسباب التي منعتها من توقيع اتفاق من هذا القبيل.
ج. أن يقتصر أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي بخصوص الهجرة على دعم بلادنا في السيطرة على حدودها وضبط أعداد الأجانب الداخلين إليها من دول شبه المنطقة، وكذلك دعم البحرية وخفر السواحل الوطنيين وأجهزتنا الأمنية لمواجهة عصابات تهريب البشر من بلادنا إلى أوروبا.
د. تقديم الدعم لبلادنا للمساعدة في إيواء وضبط اللاجئين الماليين المقيمين على أراضيها وتيسير عودتهم إلى بلدهم كلما أصبحت الظروف مواتية لذلك.
هذه الإجراءات تحقق مصالح بلادنا ومصالح الدول الأوروبية في نفس الوقت، حيث ستقلص بدرجة كبيرة أعداد القامين إلينا من مواطني دول المنطقة و أعداد المغادرين لأراضينا صوب أوروبا.
يبقى من المهم في الاخير الإشارة إلى أن موضوع هذا الاتفاق المرتقب يمثل بالنسبة للمواطنين عموما مسألة إجماع وطني ومسألة مصير شعب وأمة ولن يكون من المناسب إطلاقا ولا من الحكمة تجاهل مخاوفهم بخصوصها بغض النظر عن ماقد يقدمه الأوروبيون من دعم ومساعدة لخدمة الأهداف التنموية في البلاد.
أ. د.الصوفي ولد الشيباني
أستاذ التعاون الدولي والتنمية
في جامعة نواكشوط