حينَ دخلتُ القصر، تذكرتُك يا صديقي Eghrini Meinouh
القصرُ ما بين العصر والمغرب موحشٌ جدًا، بل إنه يكاد يكون حزينًا.
حَمَامات يتسحّبن هربًا من الظِّلال وهي تذوب في الظَّلام، على بعد خطواتٍ منهنَّ قطة كَسولة، استرخت على الرصيف النظيف، نعم.. أرصفة حديقة القصر نظيفة، وفي القصر -يا صديقي- تموتُ العداوات بين القطط والحمام!
دارُ المختار التي نسميها مجازًا القصرَ القديم، بلونه الأحمر البهي، وطوبه المزركش الطّري، فيه أشغالٌ وأكوام حجارة أمامه، حين شاهدتُها خفتُ أن يكون قيد الهدم، فهذه المدينة بلا ذاكرة، الهدمُ فيها أيسرُ من البناء، وتنمو بمنطق البادية؛ الرحيلَ ثم الرحيلَ.. ثم الرحيلْ!
طمأنني أحدهم بأنه يُرمم.
عبرتُ عدة بوابات، وحين واجهتُ القصر، وأصبحَ أمامي مباشرة؛ رفعتُ بصري نحو العلم الوطني، كان يرفرف بسعادة الريّاح.
بهدوء مصور يكادُ يكون محترفًا، نزلتُ ببصري مع المبنى، كان كتلةً ضخمة من الكآبة لا لون لها.
نوافذه الزجاجية يغمرُها صمتٌ رهيب، إنها لا تشبه ذلك الشيء الساحر الذي سماه البشرُ نافذة، ذلك الحاجز المجنون بين عالمين، نوافذُ القصر -يا صديقي- لا تُفتح، أو هكذا يبدو، والنوافذ حين لا تُفتح تموت مختنقة.
النخيلُ حول القصر أصابته عدوى الشُّحوب، فرَّت منه الحياة، لا يشبه نخيل تكانت الذي تعرف، ربما قتله الحنين، أو خنقه ملحُ عاصمة شيدت على السّباخ.
لو تحدّث نخبلُ القصر لكشفَ كثيرًا من أسرار حزن هذه البلاد، لكن النخيل لا يتحدث، وإنما الشعراء.
أربعُ عتبات من الرخام الصخري، ثم بوابة القصر الزجاجية الضخمة، يلوحُ من بعدها أشهرُ سلالم في البلاد، بسجادها الأحمر المزركش، يشبهُ كثيرًا نشرة الثامنة على التلفزيون الرسمي.
من السجاد -يا صديقي- تفوحُ رائحة خمسة رؤساء وعشرات الوزراء، وعدد لا متناهي من السياسيين والحقوقيين والصحافيين، ورائحة يمكنكُ أن تمسكها بيدك تركها زعماء القبائل حين عبروا.
خرجتُ من القصر، كان الليل قد حل على المكان، اختفت الحمامات وغابت القطة، وعمَّ هدوء مريب، تركتُ القصر خلفَ ظهري، أشاهد مبنى البرلمان على الضفة الأخرى، كتلة من النور، بلونه الذهبي المُشع، كان صاخبًا جدًا لدرجة الإزعاج.
وما بين الهدوء والصخب، مساحة من الحريّة، مفتوحة للسماء، يتحركُ فيها أشباحُ مواطنين.