لعل من المعلوم أني أتردد على السنغال منذ إبريل 2015 بمعدل رحلتين سنويا على الأقل، وقد دأبت على العبور جنوبا في الصباح احتياطا للوصول وتأمين مسكن أحرز فيه نفسي ومتاعي قبل الليل.
بالمقابل دأبت من صيف 2016 إلى الآن على السفر عشاء إلى بلادي لأعبر صباحا وأصل العاصمة قبل اشتداد الحر، وكانت البداية مصادفة ذكرتها من قبل.
أحجز المقعد الأمامي مراعاة لحالتي وطول الطريق؛ فالقانون السنغالي يفرده لشخص واحد، ويلزم من يحله بربط حزام الأمان كالسائق سواء بسواء؛ وهو ما نراه في بلادنا عبثا فيتكلفه أحدنا إذا شارف حاجزا لأمن الطرق حتى إذا تجاوز الحاجز خلع الحزام غير آسف عليه، كما يتجرع الطفل دواءه مكرها!
قد تدوم رحلتي من دكار إلى انواكشوط 12 ساعة أو أكثر، لكن الرحلة الأخيرة ناهزت 28 ساعة، فامتدت من التاسعة ليلا إلى ما بعد منتصف الليلة التالية والحمد لله على كل حال.
حين قضيت نهمتي من العاصمة السنغالية باقتناء ما يفي مُدَّةً بحاجتي من الأدوية المناسبة، والتقاط صور تتعلق بموضوع إعلامي كتبته على هامش رحلتي بين العيادات والصيدليات تحت المطر، برزت مشكلة مرتقبة؛ فأنا أصطحب كمية من الدواء تتيح للجمارك الموريتانية عرقلتي لو شاءت، كما عرفته من قبل، مع أن كلا منها مصحوب بوصفته، وأغلبها غير معروف في موريتانيا، ويكفي غش الأدوية داعيا لاصطحاب الموجود منها. ومن الواضح أني لا أحسن التهريب والمتاجرة، لكن المعايير متعددة؛ فبينما يمر زيد بحمولته دون اعتراض ولا تحقق من ماهيتها يفتش عمرو ويستجوب على توافه الأمور..
أجريت اتصالات من دكار أسفرت عن وعدين بتسوية ما قد أتعرض له، لكن صديقي العزيز محمد ابن الشيخ محمد آسكر المقيم هناك اتصل بجمركي صديق له يعمل بمعبر القوارب، فوعده بعبوري دون عرقلة؛ وهو ما رأيته أحسن من التدخل بعد الحاجة إليه، فأمدني صديقي برقم الرجل واسمه؛ مع التنبيه على أنه يبدأ العمل في المعبر بعد التاسعة صباحا، وهو ما يحتاج ملاءمة مع وقت عبوري؛ فأنا أعبر عادة تمام الثامنة، وربما عبرت قبل ذلك، لكن لا بأس؛ فلأنتظر بالعدوة القصوى حتى يحين الموعد فأدخل بلادي في جوار الجمركي الشهم. (هكذا فكرت).
مساء الأربعاء 06 من سبتمبر 2023 صفينا الحساب مع المؤجر وودعناه، وودعنا من يلينا من النزلاء، وبعد شاي وعشاء مستعجل سار معي صديقي مشيعا إلى محطة النقل البري، وعند ما وصلنا إلى محطة القطار السريع لاستقلاله إليها علمنا أن الظروف الأمنية التي عاشها السنغال مؤخرا تقضي بتوقف القطارات ابتداء من التاسعة ليلا، نظرت فإذا الساعة 8.59 د، ومن هنا بدأ المسلسل.
خرجنا من محطة القطار بحثا عن سيارة أجرة، وجدناها فأقلتنا إلى محطة النقل البري، وهناك حجزت المقعد الذي يلائمني في السيارة الأولى وانتظرنا اكتمال الركاب، فطال الانتظار على غير العادة، فحركة المسافرين لم تكن على ما يرام.
في حدود الحادية عشرة ليلا أبلغنا السمسار بأن من الممنوع الخروج من دكار من نصف الليل إلى الخامسة فجرا، فإذا لم يكتمل الركاب في دقائق فلن يبقى من الوقت ما يضمن الخروج من منطقة العاصمة؛ وبالتالي لن نبرح المحطة إلا فجرا.
الآن جاء تفسير ضعف الإقبال على السفر؛ فالقوم يعلمون بالأمر الذي نجهله، والذي أمْلته التطورات الأمنية الأخيرة على ما يبدو.
كان في السيارة مقعدان شاغران فاقترحنا على الرفاق تعويضهما للسائق، لكن أكثرهم لم يرض فلم يبق إلا التسليم بما لا مناص منه.
حوالي منتصف الليل ودّعني صديقي عائدا أدراجه وبقيت هناك حارسا لمتاعي أراوح القيام والقعود والتمشي، بينما استمر المطر معظم الوقت، لكنه لم يصبنا بأذى لله الحمد؛ فالمساحة مسقوفة والصرف جيد.
بات الحال هكذا حتى دب النشاط سحيرا فأديرت محركات السيارات وازدلفت إلى نقطة الانطلاق وأقبل المسافرون فرادى وجماعات، واكتمل نصاب سيارتنا فورا فبدأ تنضيد الأمتعة فوقها وتغطية هذه بالبلاستيك وقاية من المطر. توضأت استعدادا لطلوع الفجر ودلفت إلى مقعدي وانطلقنا بعون الله، وكان من الواضح أن السائق يريد تعويض ما خسره من وقت؛ فقد سلك الطريق السريع إلى أقصى مكان يلائمه (45 كم) وبذا تجنب الحراك الذي لا يفتر في دكار والمدن المجاورة (خصوصا مع إقبال النهار) وبعيد تحوله إلى الطريق العام طلع الفجر وقد شارفنا كيص (Thèis) التي نَكّب عنها إلى الطريق الجانبي الذي يفضله المسافرون في أوقات الأمن، ويعزفون عنه في جوف الليل مؤثرين معمعان المدينة على المخاطرة، وفي منحنى العودة إلى الطريق العادي طلبت من السائق التوقف للصلاة بمسجد جديد ظل سنوات في طور البناء فتذرع بأن الوقت واسع، وتكرر الحال بيني وبينه من مدينة لأخرى، حتى إذا وصلنا تيواون (حوالي 100 كم من دكار) وقد قاربت الشمس الطلوع فيما أرى، قلت له إن الوقت ضاق جدا على الصلاة ولا يمكن مزيد التأخير، فقبل هذه المرة وتوقف أمام محطة وقود في أقصى المدينة تضم مسجدا ومتوضأ وما إليهما.
بادرت إلى المسجد فصليت وأنهيت المعقبات، بينما كان الركاب يتوضؤون، ولما خرجت إذا بالشمس طلعت، والله أعلم هل طلعت قبل صلاتي أنا أيضا أم بعدها؛ فالنوء وجهل توقيت المكان لم يسمحا بغير التخمين؛ مع سهولة اطلاعي على الأخير لو تذكرت ذلك.
بعد الصلاة عدنا إلى مقاعدنا فانطلق السائق ينهب الأرض نهبا ويطوى المدن والقرى تباعا.. كل شيء على ما يرام، والبساط السندسي الناعم يحجب وعثاء السفر وإرهاق السهر. وبعيد تمام التاسعة، وقد بقي بيننا وبين اللوگه حوالي 15 – 10 كم، وهو ما يدل على انتصاف الطريق، حدث ما لم يكن في الحسبان.
بينما نحن على ما سلف وصفه تجاوزتنا حافلة ضخمة مسرعة، دون تحفظ من الاحتكاك بنا، ولعل سائقنا لم يكن منتبها بالقدر الكافي فجاء تصرفه أكثر مما يقتضيه المقام.
بحركة عصبية أدار المقود يمينا للنجاة من الحافلة (وكان مسرعا) فترك الطريق المعبد وارتطمت العجلة الأمامية اليمنى بجدار حوض لتسريب مياه الأمطار فانفجرت، وتكأكأ الركاب في صدر السيارة جراء الصدمة، ولولا لطف الله ثم الحزام لطوحت بي أنا أيضا بعيدا، مخترقا الزجاج الأمامي.
نقصت الصدمة سرعة السيارة وأحدثت عرجا بها، لكنها لم توقفها، وإنما واصلت السير فمرت عجلتها المصابة فوق حرف الحوض إلى نهايته دون انحراف (تنظر الصورة) ولو زاغت يمينا لانقلبت السيارة فيه، والله أدرى بالمصير. ثم استمر سيرها المترنح باتجاه بناء مرتفع، بينما استمات السائق في سبيل التحكم فيها إلى أن تمكن من لَفْتها وقد كادت تصدمه، فأعادها بصعوبة إلى حافة الطريق وأوقفها؛ أما الحوض فلم يتضرر، وإنما أزال الاحتكاك قليلا من طلائه وتركت العجلة سوادا خفيفا على طرفه كما توضحه الصورة، وأما الحافلة فواصلت سيرها وكأن شيئا لم يكن.
خرجنا لتفقد أنفسنا ثم تفقد السيارة. رضوض وكدمات خفيفة لله الحمد، كان لي نصيب الأسد منها بحكم مكاني وقربي من محل الارتطام. ألَمٌ في ظهري جراء الرجة ووقوع جسم لا أدري ماهيته، ولا أعلم كيف أصابه؛ فالمفروض أنه محمي بالمقعد، وجرحان خفيفان في الساق اليسرى بسبب انصباب أدوات وأجسام معدنية كانت في صندوق أمامي انفتح عند الصدمة الأولى. أما إصابات السيارة فأهمها تعطل العجلة المذكورة وكسر في المصباح الأمامي الأيمن وخَلْع في بعض الأماكن.
أخرج السائق عجلته الاحتياطية فكانت غير سليمة فلجأ إلى استيقاف زملائه طالبا عجلة، حتى وجدها أخيرا فثبتها في مكان المصابة وشد بعض ما استرخى بتأثير الصدمة وركبنا ونحن نرى الأمر انتهى، لكن تبين أن في المقود عَسَرًا وقسوة غير مناسبين فنزلنا أيضا.
تتابع توقف الناقلين ومحاولتهم تشخيص العطل؛ تارة بالتخمين وتارة بالاستلقاء تحت السيارة والمعاينة، حتى اكتشف أحدهم عوجا في رف التوجيه (Crémaillère) وهنا استبان أن إكمال الرحلة يحتاج سيارة أخرى.
بدأ السائق استيقاف السيارات بغية نقل الركاب إلى وجهتهم، لكن دون جدوى، وأخيرا وجد سيارة أقلته إلى اللوگه القريبة وبقينا في انتظاره.
قارب النهار الانتصاف ونحن في مكاننا، وانضاف صداع الشاي إلى ما أشعر به، وبدأت أخشى أن ينصرف الجمركي الذي سبق ذكره قبل وصولي بعد أن كانت خشيتي من العكس، فاقترحت على شاب كان الموريتاني الوحيد بين رفقائي الانتقال إلى اللوگه، ومن ثم إكمال رحلتنا؛ فهناك محطة نقل نشطة فيما أظن، فوافق.
فتحت مؤخرة السيارة لإخراج حقيبتي فلما حركتها وقع في الأرض شيء كان عليها، وصاحت إحدى الراكبات فزعة وكانت مسنة (ولا تخلو من حدة) فنظرت فإذا حدثٌ لم أنتبه له.
أثناء رحلتنا طلبت راكبة مسنة من السائق التوقف عند عارضات للثمار، فاشترت من إحداهن كمية كبيرة من الفاصوليا (آدلگان) ما زالت خضراء في قرونها (الخرّوب) وعند تعطل السيارة جلست تحت شجرة فاستخلصت الحبوب ووضعتها في كيس بلاستيكي أدخلته في سلتها دون أن تغلقها، وكانت فوق حقيبتي، فلما حركت حقيبتي انكفأت وانشق الكيس وتناثرت الفاصوليا الطرية الخضراء على حجارة تقاربها في الحجم!
بحثت في سلة المرأة فوجدت كيسا وضعتْ فيه بعض مشترياتها فأخليتُه وشرعت في التقاط الحبوب ووضعها فيه؛ بينما انصرفت المرأة إلى هاتفها حين اطمأنت إلى تحملي تبعة فعلي.
واصلتُ تتبع الحب المنثور حوالي نصف ساعة حتى لم يبق إلا نحو عشر مرضوضات جراء الوطء أو غيره، فأوكأت الكيس ووضعته في سلة صاحبته وأغلقتها بالسَّحّاب خشية تكرار المعاناة لي أو لغيري. وكان هذا أشد علي مما لاقيته في هذه الرحلة قبله وبعده.
بعد ما أنهيت الالتقاط أنزلت حقيبتي وجررتها إلى ناصية الطريق وبدأت ورفيقي استيقاف السيارات، وبعد مدة وجدنا سيارة أجرة أوصلتنا إلى اللوگه، وهناك لم نجد ما يتجاوز اندر (70 كم) فقبلناه لكونه أقرب إلى مقصدنا؛ فشيء أفضل من لا شيء. وبعد حوالي ساعة أنزلَنا صاحبنا في محطة النقل باندر، فذهب رفيقي بحثا عن كأس شاي كما أخبرني من بعدُ، وقبل أن أبدأ البحث عن سيارة فوجئت بالناقل الذي أوصلنا يطلب مني العودة إلى مقعدي وتسليم حقيبتي؛ فقد لاحظ كثرة المتجهين إلى روصو في المحطة، وحين عاد رفيقي كان الراكب الأخير، ولو لم أحجز له لما وجد مكانه، فانطلقنا موغرين إلى المدينة الحدودية التي وصلناها بعد الثانية ظهرا، وهناك وجدنا رفقاء رحلتنا؛ فيبدو أن السائق عاد إليهم بسيارة بعيد مغادرتنا، وكان أول من ميزته من أفواج البشر عند مفوضية الشرطة صاحبة الفاصوليا، والله أعلم هل كان السبب قامتها الفارعة أم أثرا نفسيا للمعاناة السابقة. وشاء الله أن يفصل بيني وبينها في الطابور شخصان أو ثلاثة.
أنهيت ورفيقي إجراءات الخروج فخرجنا إلى المعبر وهناك علمنا أن العبور يتوقف من الثانية إلى الثالثة لاستراحة المشرفين عليه، فصلينا الظهر ومكثنا في جو حار بانتظار الوقت الموعود.
عند الثالثة فتح المجال للمغادرة واصطفت الزوارق تعرضا للركاب فكان نصيبنا أولها انطلاقا، وبعد الاستقرار فيه أخرجت هاتفي للاتصال بالجمركي الذي سبق ذكره؛ مشعرا بنفسي وبأماراتي، فلم يكن الاتصال متاحا، ثم حاولت صديقي في دكار لعله يشعره فكان الحال كسابقه!
واصلت المحاولات دون جدوى، وخلال ذلك انطلق الزورق فلم أتوان في محاولاتي حتى اقترب من الضفة الموريتانية فاستسلمت للواقع وعلمت أني محاصر وأن المقدر كائن لا محالة.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عند الرُّسُوّ كان الشرطي جاهزا لاستلام هويات الركاب قبل نزولهم كالعادة، وعند ما مددت بطاقة تعريفي إليه ابتسم وقال مداعبا: لا أريدها إن كنتَ موريتانيا، فأجبته: ما ذا ترى أنت! ونزلت إلى البر أجُرُّ حقيبتي.
معبر القوارب قسمان: أحدهما للسيارات والأمتعة، ويديره الدرك بمشاركة الجمارك، والثاني للأفراد الذين لا يصحبون شيئا يذكر، وتديره الشرطة والدرك، وبابه باب غرفة عادي يفضي إليه ممر من الجنوب، وفي هذا القسم تجري إجراءات العبور ذهابا وإيابا، وأمامه ترسو الزوارق.
مررت من الجزء الذي تديره الشرطة من ممر الأفراد دون ممانعة، فلما وصلت إلى جزء الدرك إذا بدركي يضيق المرور بكرسيه وإزاءه مدني مضطجع على شقه، سلمت عليهما فلم يردا سلامي ولم يفسحا لي الطريق فمررت بتحرز شديد، فلما جاوزتهما قال الدركي بنبرة آمرة: "هيه أرجع جاي" فعدت إليه وأنا أحسبه سيأمرني بالخروج من حيث يمر حاملو الأمتعة (والمرور بالجمارك بالتالي) فقال لي: "انت ما خلصت اجوتي" فقلت في نفسي: "ألا ذ باط!"
طلب مني 300 أوقية قديمة أو 500 ف فدفعت إلى المضطجع 1000ف أخذ منها ما طلبه وتنفست الصعداء فواصلت سيري حتى خرجت من القسم واتجهت إلى الشارع المعبد في ممر غير ميسر لجر الحقائب تكتنفه متاجر ومقاشر للأرز، لكن هوَّن الأمر علي تجنب عرقلة جديدة ومعاناة لا تنقصني، مع أني لا أحمل مُحَرّما ولم أرتكب مخالفة لله الحمد.
وقفت على الشارع في حر شديد لعلي أجد سيارة أجرة تقلني إلى أفراد من عائلتي قرب السجن، فلم تتيسر، ولم أرتح لإطالة المكث هناك، كأنما أخشى أن يستعيدني الجمارك فأبدأ معاناة جديدة دون سبب مفهوم. وبعد وقت قصير جنبت حقيبتي وانطلقت إلى متجر صديق لي بالسوق، وكان الأمر سهلا، لأن بكرات الحقيبة وجدت مجرى يناسبها فانسابت معي على الإسفلت دون جهد يذكر.
هبَّ صديقي مُرَحِّبًا ومفسحا، فشكرته مستأذنا في التجاوز، وتركت الحقيبة لديه، وسرت إلى مقصدي فوصلته حوالي الثالثة والنصف ظهرا، ووجدت القوم بانتظاري فطفقوا يزيلون الظمأ والدواخ والجوع عني، ويبدو أن أهل البيت في البادية فقدوا الاتصال بي فقلقوا علي، واتصل بعضهم بأحد مضيفيّ بعد وصولي فحادثتهم عبر هاتفه، وهناك بحثت عن مشكلة هاتفي فإذا شريحتاه تزحزحتا من مكانهما الصحيح؛ وهو ما حسبته من تأثيرات الصدمة التي سبق ذكرها.
أعدت ترتيب هاتفي فاستعاد عافيته، واقترح مضيفي الكريم أن يوصلني العاصمة في سيارته الشخصية إنهاء لعنائي فوافقت شاكرا.
أبردنا بالسفر ثم أخذنا الحقيبة من مستودعها وودّعْنا صديقنا العزيز وانطلقنا من القوارب في حدود السادسة مساء، وتزامَن خروجنا مع انهمار وابل مدرار مصحوب بالعواصف عليها، واستمر في مطاردتنا، لكن ظلت مسافة فاصلة بيننا وبينه حتى انعطف الطريق شمالا فتلاشت المسافة فغشينا وحكم علينا ببطء السير وإغلاق النوافذ، مع ما ينشأ عن الأول إطالة الرحلة وما يستلزمه من تركيز وحذر، وما ينشأ عن الثاني من تكاثف البخار على زجاج السيارة جراء التنفس والكلام. وزاد معاناتنا أن ماسحة الزجاج اليسرى لم تكن على ما يرام؛ وهو ما تغلب عليه أحد الأقارب لاحقا في الجديدة باستبدالها.
غربت الشمس فحانت الصلاة والمطر يهمي، ونحن لا نستطيع الخروج من السيارة، وكان أملنا في الجديدة التي وصلناها بعد وقت وجهد، ومع أن مقصدنا على ناصية الطريق العام وتركيزنا بحثا عنه فقد تجاوزناه دون رؤيته بسبب انصباب المطر، حتى انتهت المدينة، ثم كررنا راجعين واستطعنا تمييزه أو تخمينه.
مع أفراد من العائلة هناك صلينا العشاءين جمعا، وشربنا وتبادلنا الأخبار، وبعد كأسين من الشاي ودعناهم وقد تجاوز الوقت التاسعة ليلا، وبدا أن المطر توقف.
بمجرد الخروج من المدينة تجدد المطر واستمر الحال إلى العاصمة. وحين وصلناها انضافت مشكلة مستنقعات الشوارع وما تغطيه من حفر ومطبات وأجسام غير مأمونة على العجلات.. وكان أعمقها وأسوؤها بسوق لكبيد.
بعد منتصف الليل بعشرين دقيقة توقفنا أمام المنزل بانواكشوط، بعد ما طال انتظار من فيه وتكررت مهاتفاته مستبطئا، فانتهت رحلة دامت حوالي 28 ساعة في حوالي 600 كم، ومن نعم الله أن كنت فيها وحيدا؛ فقد جرت العادة أن يرافقني أحيانا بعض المرضى من الضعاف والنساء والأطفال..
في الصباح رتبت حقيبتي واصطحبت ما لا بد لي منه، وكان مقيلي مع العيال في البادية.
{لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا}.