ليس تقييم الأكاديمي صامويل راماني الوارد في مقاله المنشور في مجلة فورين بوليسي، والذي أثنى فيه على مكانة موريتانيا وأهمية دورها الأقليمي وتسابق الدول الكبرى
" لخطب ودها" وحرصها على توطيد علاقات الشراكة والتعاون معها، ليس تقييما خاصا به وإنما هو تقييم يكاد يتفق عليه الكثير من المحللين والمتابعين لشؤون المنطقة في السنوات الأخيرة. وهو نتيجة عوامل من أهمها، بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي الهام وما تزخر به من مصادر الطاقة الحيوية، نجاحها في إبعاد خطر الإرهاب والهجمات المسلحة عن أراضيها وتمكنها من بسط سيطرة جيشها على كامل أراضيها مما مكنها من تحقيق مستوى من الاستقرار والأمن إنفردت به في منطقة الساحل التي ظلت موريتانيا طوال السنوات الماضية هي المدخل الأهم لمعالجة قضاياها الأمنية والتنموية والعنوان الأبرز لها خاصة لدى الشركاء الغربيين الذين مافتئوا يعبرون عن إنبهارهم بالتجربة الموريتانية لمحاربة الإرهاب والتطرف و يعتبرونها نموذجا يحتذى.
ولا يخفى على أي متابع متبصر أن قيام مجموعة دول الساحل الخمس التي كانت موريتانيا صاحبة المبادرة بإنشائها والتي يوجد مقرها الدائم في نواكشوط،كان وراء الزخم الكبير الذي باتت البلاد تحظى به على الصعيدين الإقليمي والدولي بوصفها بوابة فعالة للتعاطي مع شؤون دول ومنطقة الساحل التي يزداد إهتمام العالم بها وتتنامى المنافسة بين الدول الكبرى عليها.
غير أن المتغيرات التي حصلت في المنطقة في الآونة الأخيرة وخاصة قيام إنقلابات عسكرية في ثلاث من دول مجموعة الساحل الخمس وقطع علاقتها مع فرنسا المستعمر السابق والدولة ذات النفوذ الكبير في المنطقة وفي العديد من الدول الإفريقية، والتي تعتبر القوة الكبرى التي تقف وراء مجموعة دول الساحل الخمس، وما نجم عن ذلك من تغير جيو - سياسي في المنطقة ومن تبدل الفاعلين الرئيسين فيها وتشكل محور إقليمي جديدة ( تحالف دول الساحل الذي يضم كلا من مالي وبوركينافاسو
والنيجر) ، كل ذلك يجعل المتابعين لشؤون المنطقة يتساءلون عن ماذا كان بإمكان موريتانيا أن تحافظ على مكانتها الرائدة في المنطقة في ظل تغير المعطيات والظروف التي منحتها الأهمية المذكورة أعلاه؟ بل هل بإمكانها أن تتجنب تضرر علاقاتها بشركائها في مجموعة الساحل الخمس الذين باتوا ينسقون ويتحالفون مع قوة دولية مناوئة للقوى الغربية التي تتحالف معها موريتانيا ؟ وهل يمكنها أن تزاوج بين الحفاظ على علاقتها وتنسيقها الأمني مع دول يضمها تحالف أمني هي ليست من ضمنه، وبين استمرار حالة عدم المواجهة مع الجماعات المسلحة الناشطة في المنطقة والتي استطاعت الحفاظ عليها طوال السنوات الماضية؟ وما الذي يجب فعله لضمان استمرار المكانة والدور الإقليمي المهمين لموريتانيا؟
إن التعامل مع الأسئلة المثارة آنفا يتطلب تصور السيناريوهات المنطقية والمعقولة لتعامل موريتانيا مع الوضع المستجد في منطقة الساحل.
وفي هذا السياق فإنه يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لتعاطي موريتانيا مع المتغيرات الجديدة من حولها.
السيناريو الأول هو أن تتجه نحو توطيد علاقاتها مع الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي الذي يعتبرها شريكا رئيسيا ومميزا في المنطقة ، بل إنه يعتبرها مدخله للتعامل مع قضايا منطقة الساحل، وهذا التوجه سيعني بطبيعة الحال تقليص علاقاتها بشركائها في مجموعة الساحل الخمس وقد يدفع بتلك الدول إلى المزيد من الإبتعاد عن تلك المجموعة والنظر بريبة لموقف موريتانيا باعتبارها أداة للدول الغربية وخاصة فرنسا وهو ما قد يؤدي إلى توتر علاقاتها بشركائها في المجموعة خاصة أن التنسيق بينها وبينهم في مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة لن يبقى قائما كما هو بعد أن أصبحت تلك الدول متحالفة أمنيا في إطار جديد لا يضم موريتاتيا الأمر الذي سيجعل الأخيرة تجد نفسها وحيدة في مواجهة المخاطر والتهديدات الإرهابية،وهو ما سيجعلها أكثر حرصا على استمرار الوضع الحالي الأمر قد يتسبب في تزايد الشكوك خصوصا لدى الجارة القريبة ( دولة مالي) من تنسيق موريتاني خفي مع المجموعات المسلحة في أزواد خاصة مع تنامي العمليات والمواجهات بين الجيش المالي والتنظيمات الناشطة في منطقة أزواد بالقرب من الحدود الموريتانية ولجوء بعض عناصر تلك التنظيمات لموريتانيا كمواطنين ماليين في حالات حساسة عقب المواجهات، بل ولجوئهم لطلب خدمات إنسانية أساسية متعلقة بالعلاج من الجراح التي يصابون بها أثناء المواجهات مع الجيش المالي.
كل ذلك سيعمق الهوة بين موريتانيا ودول المنطقة ويقلص الدور الإقليمي لها بل قد يقودها إلى الدخول في نزاعات ومواجهات ظلت بمنأى عنها طوال السنوات الماضية. ومن الواضح أن أي توجه يقود إلى هذا المآل هو توجه لا يخدم مصالح موريتانيا ويخلق لها شبه عزلة في المنطقة و بالتالي يجب تجنبه.
أما السيناريو الثاني فهو أن تختار موريتاتيا نهجا أقرب إلى الحياد، بحيث تحافظ على علاقاتها مع شركائها في مجموعة الساحل دون الدخول معهم في إطار التعاون الأمني الإقليمي الذي استحدثوه، وتقلص في نفس علاقاتها وتنسيقها مع حلف شمال الأطلسي و مع فرنسا.
و سيكون تقليص علاقاتها الأمنية مع الدول الغربية هو ثمن إحتفاظها بعلاقات جيدة مع شركائها في مجموعة دول الساحل الخمس لأن ثلاث من تلك الدول باتت جزء من أجندة روسيا في المنطقة وأداة من أدوات مواجهتها مع الغرب ولن تقبل إستمرار التنسيق الأمني مع بلد هو مدخل الناتو الرئيسي للتعامل مع قضايا الساحل ، و بالتالي فإن إختيار هذا النهج سيفرض علي موريتانيا في النهاية تقليص تعاونها وتنسيقها الآمني والاستخباراتي مع الدول الغربية وهو أمر لا يخدمها في المرحلة الحالية التي تقف فيها وحيدة في مواجهة وضع إقليمي يزداد إضطرابا وتعقيدا.
وبغض النظر عن صعوبة ومخاطر التوفيق بين هذين الأمرين، فإن محصلة هذا السيناريو هي تراجع الدور الإقليمي لموريتانيا وتراجع التعامل معها كبوابة لدول الساحل، وبالتالي فإنه سيتسبب لها في وضعية من التهميش لا ينبغي القبول بالرجوع لها تحت أي ظرف لأن الدول لا تقبل بتراجع دورها وتأثيرها إلا في حالات الإنهيار أو الاستسلام في الحروب كما حدث لآلمانيا النازية واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية.
وإضافة إلى كل ما تقدم فإن هذا السيناريو لا يجعل موريتانيا في مأمن من استهداف المجموعات المسلحة التي تغيرت أطماعها وبات بعضها يطمح لأكثر مما كان يناضل من أجله لأنها أصبحت تعتقد أن وضعها من حيث ميزان القوة وفرص النجاح أفضل بعد مغادرة القوات الدولية والفرنسية للمنطقة وإنفرادها هي بجيوش دول منهكة ويمزقها التمرد و الفقر وغياب العدالة...وفي هذا الإطار فإن استمرار تنسيق موريتانيا مع دول تحالف الساحل قد يدفع تلك الجماعات والتنظيمات لتغيير قواعد اللعبة في العلاقة معها مما يجعلها في وضعية مواجهة مع تلك التنظيمات دون أن يكون لها سند أو متكأ إقليمي يدعمها. ونظرا لكل ذلك فإنه يجب أيضا تجنب هذا السيناريو كسابقه.
أما السيناريو الثالث فيتمثل في تمسك موريتانيا بعناصر القوة الحالية لديها وخاصة مجموعة دول الساحل الخمس والعمل على تعزيز دورها في مجال الإقتصاد وإقامة البنية التحتية وجلب التمويلات ومساعدات التنمية وهي أمور حصلت فيها خطوات وتعهدات مهمة من المانحين لصالح دول الساحل، هذا بالإضافة إلى توسيع عضويتها لتشمل دولا أخرى، على أن يكون ذلك مع التعامل بحكمة ومرونة مع الوضعية الجديدة لشركائها في المجموعة وإحترام رغبتهم في إقامة تحالف أمني جديد يضمهم دونها مواليا لروسيا ومعاديا للغرب حليفها وداعمها الرئيس.
ومن الواضح أن هذا الخيار يتطلب ديبلوماسية فعالة وسرعة في اتخاذ المبادرات وتوظيف عناصر القوة المتاحة، وهي أمور يبدو أن موريتاتيا تراجعت فيها منذ بعض الوقت في ما يتعلق بتعاملها مع مستجدات منطقة الساحل، حيث ظهر ضعف أداء ديبلوماسيتها حينما لوحت جمهورية مالي بالانسحاب من مجموعة الساحل الخمس قبل زهاء سنتين ولم تقم الديبلوماسية الموريتانية بأي تحرك ذي بال للحيلولة دون ذلك ، بل إنه حتى بعد أن نفذت مالي إنسحابها فعليا من المجموعة لم يلاحظ أي دور يذكر لموريتانيا، دولة المقر والمستفيد الأول من المجموعة، لثتي جارتها عن قرارها أو لخلق أجواء جديدة تسمح لها بمراجعة موقفها. وقد إنضاف إلى ذلك عدم قيام الديبلوماسية الموريتانية بأي دور يذكر في أزمة إنقلاب النيجر رغم ما تتوفر عليه البلاد من مقومات للعب دور إيجابي لإيجاد حل لهذه الأزمة التي طالت تبعاتها المنطقة برمتها وتكاد تؤدي إلى القضاء على الوضع الجيوسياسي للمنطقة والتي كانت موريتانيا من أكبر الكاسبين منه.
وجدير بالإشارة إليه أن ضعف الديبلوماسية الموريتانية في التعامل مع مستجدات المنطقة لا يتناسب مع خبرة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في قضايا الأمن والسياسة في منطقة الساحل ولا مع الثقة التي يحظى لها لدى قادة دول المنطقة!
وهذا الضعف أو شبه الغياب الذي اتسمت به الديبلوماسية الموريتانية تجاه قضايا ومستجدات الساحل هو ما يجعل الكثيرين يشككون في إمكانية نجاح هذا الخيار في حالة تبني موريتانيا له، رغم انه هو الأنسب لها وهو الذي يحقق مصالحها ويضمن إستمرار دورها الإقليمي، إلا إذا غيرت الدولة سياستها ونهجها في التعاطي مع مستجدات المنطقة ومسكت العصا من الوسط ووظفت كل عناصر القوة والعلاقات التي تخدمها خاصة دعمها لجمهورية مالي إبان خضوعها لعقوبات مجموعة دول غرب إفريقيا حيث وفرت لها منفذا آمنا مكنها من الحصول على حاجياتها من مختلف أنواع السلع الأساسية فضلا عن تموينها الدائم عن طريق ميناء الصداقة، هذا بالإضافة إلى ما يمكن لموريتانيا أن تساهم به من جهود لإيجاد تسوية للصراع في إقليم أزواد نظرا لقوة علاقاتها بالمنظمات والهيئات المناضلة في الإقليم.
وهكذا يتضح أن هذا السيناريو هو الأفضل لموريتانيا لأنه يبقيها دولة إقليمية محورية ويضمن إستمرار أهمية دورها وتأثيرها، وبالتالي إستمرار سعي كل القوى الفاعلة في التعامل معها من جهة، وكذلك حرص دول المنطقة على الحفاظ على علاقات إيجابية معها من جهة أخرى، كما أنه يجنبها الدخول في نزاعات أو صراعات مع جيرانها، وقد يساعد أيضا في استمرار الوضع القائم في ما يتعلق بنظرة الجماعات والتنظيمات المسلحة في المنطقة لها.
أ. د.الصوفي ولد الشيباني أستاذ بجتمعة نواكشوط