الفاضل
كلما زرت البادية رصدت بعض ملامح التغير الحاصل فيها، ويمكن إجمال ملامح ذلك التغير في النقاط التالية:
1 ـ في سنوات خلت، كان عندما ينادي المنادي في البادية مستغيثا: "لعجول اتراظعو" تبدأ حالة استنفار شديدة في الحي، فيخرج الرجال والأطفال، وربما يخرج جنود الاحتياط (النساء) إن استدعت الظرفية ذلك. أما اليوم فعندما تنادي بأعلى صوتك "لعجول اتراظعو"، فلن تجد من يهتم بالأمر، فالكل مشغول بهاتفه، وفي أحسن الأحوال، فلن يهتم بندائك إلا الشخص المعني بشكل مباشر بالعجول؛
2 ـ في سنوات خلت، كانت سخونة الألبان الطازجة من الأمور المطلوبة في البادية، فتسخن "التاديت"، وأذكر أننا كنا نضع في بعض الأحيان حجرة في النار حتى تصبح شديدة الحرارة ثم نلقيها بعد ذلك في اللبن..اليوم هناك من يضع حجرة من الثلج لتبريد اللبن بدلا من حجرة التسخين؛
3 ـ في سنوات خلت، كنا عندما تظهر غيوم أو مزن في السماء نستمع من الأهالي إلى تحليلات وتنبؤات حول إمكانية نزول المطر، تعتمد أساسا على شكل الغيوم والجهة التي تظهر فيها تلك الغيوم ومستوى موقعها في السماء، وإلى غير ذلك من المعطيات الجوية التي يعتمد عليها الخبراء التقليديون في الإرصاد الجوي في الحي لتقديم تنبؤاتهم، والتي لم تكن تخطئ في كثير من الأحيان.. اليوم لم يعد لهؤلاء الخبراء التقليديين أي دور، وذلك بعد أن استبدلناهم في بحساب عمر كوناتي على الفيسبوك، وبطقسكم 24، وبالصفحة الرسمية للأرصاد الجوية.. الكل هنا في البادية أصبح يتابع الأرصاد الجوية من خلال الفيسبوك، ولم يعد هناك من يلقي بالا لتنبؤات خبراء الرصد الجوي التقليديين؛
4 ـ في سنوات خلت، كان من الطبيعي جدا أن تصادف في كل حين "ابجاوي"، وكان من النادر جدا أن تشاهد أو تسمع صوت سيارة، ولذلك فقد كان لعبارة "حس وته" أو "ذوكو ظو وته" وقع خاص في النفوس. اليوم أصبحت السيارات كثيرة في البوادي، والتي تحولت ـ بالمناسبة ـ خيامها إلى أعرشة وبيوت ومنازل فاخرة، وأصبح النادر جدا هو أن تصادف "أبجاوي" تتبادل معه الحديث التقليدي المعروف : أمنين صابح؟ ما شفت ش من أظوال ؟ اسحاب أمنين لحكت....إلخ.
يبدو أننا أصبحنا اليوم نعيش زمن "ذوك أبجاوي" بدلا من "ذوك ظو وته"!!؛
5 ـ ومع كل هذا التغير الحاصل تبقى بعض مسلكياتنا وحركاتنا العفوية يتحكم فيها ماضينا البدوي الأصيل..منذ أيام كنتُ في سيارة رفقة البعض، ومررنا بطريق تكثر فيها الأشجار من ذوات الأشواك الطويلة..كانت أبواب السيارة مغلقة بطبيعة الحال، وكان زجاج الأبواب مغلقا كذلك، ولم يكن هناك أي احتمال لأن يؤذيني شوك الأشجار، ومع ذلك فقد كنت أنحني خلسة في بعض الأحيان بشكل لا إرادي، وأميل يمينا أو شمالا بشكل عفوي تجنبا للأشواك، وذلك عندما تمر السيارة قرب عرش شجرة مليء بالأشواك، كنتُ أقوم بذلك بشكل عفوي مخافة أن يصيبني شوك الأشجار بأذى..إنها حركات بسيطة وعفوية "تفضحنا"، وتكشف حقيقتنا البدوية، وتذكرنا بما كنا نفعل عندما يكون أحدنا فوق راحلة، ويمر قرب أشجار مليئة بالأشواك.
يبدو أن مثل هذه الحركات البسيطة، والتي نقوم بها دون أن تلفت انتباهنا، هي أهم ما بقى لدينا من ماضينا البدوي المهدد اليوم بالتغير والنسيان؛
6 - لم يقتصر التغير في السلوك على المجتمع البدوي، بل امتد ليشمل سلوك الحيوان. أذكر أن حينا في أول عبور له لطريق الأمل شمالا ذات "رحيل" تتبعا للكلأ، أذكر أنه وجد صعوبة كبيرة في عبور مواشيه لهذا الشريط الأسود الذي لم تره من قبل.
كان الجمل المحمل بالأمتعة عندما يصل إلى حافة الشريط الأسود يجفل، وكانت الأبقار تنقلب على أعقابها فزعة، وكان ذلك هو حال بقية الحيوانات. في المجمل لم يكن عبور الحيوانات ومواشي حينا للشريط الأسود لأول مرة بالأمر السهل، وهناك من يتحدث عن أول جمل في الحي قبل بعبور الشريط الأسود. اليوم أصبحت الحيوانات تقطع الطرق المعبدة بشكل عادي، بل أن الكثير منها أصبح يقضي وقتا طويلا على الطرق، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في نسبة حوادث السير التي تتسبب فيها الحيوانات.
عطلة سعيدة وخريف جميل..
حفظ الله موريتانيا