هو النص الذي سيوجه إلى القضاة للعمل به، ولن يعدموا من الفهم ما يدركون به أن المفهوم المقصود نقيض المنطوق، ولكن ما الذي يحملنا على أن نكلهم إلى فهمهم؟ والحال أن باستطاعتنا أن نتريث قليلا لنصحح النص ونقومه، فالأصل أنه لا اجتهاد مع النص، وأن المشرع أولى بتحديد مدلول كلامه، وأن القانون يفقد صفته إذا كانت مضامينه ملتبسة، أحرى إذا أعطت كلماته عكس المعنى المقصود.
ولأن الاستدراك التشريعي الذي يعين على تصحيح الألفاظ والتراكيب بمواءمتها مع الدلالات والمقاصد المستهدفة لم يدخل بعد في تقاليد عملنا النيابي، كان أحسن مآلات بعض النصوص المعلولة أن يتصرف فيها الجهاز التنفيذي مستقلا فيصحح نصا قانونيا دون الرجوع إلى الجهة الوحيدة التي تملك صلاحية تصحيحه. وقد يكون تصرفه هذا صوابا بالرغم من كونه خطأ من الناحية القانونية. لكن تصرف الجهاز التنفيذي في النصوص، وإن كان حالة استثنائية، قد يذهب أبعد من ذلك، فتجد في الجريدة الرسمية – على سبيل المثال – قانونا برقم وتاريخ معينين، ثم تجد بعد أشهر، في عدد لاحق من الجريدة الرسمية، نسخة أخرى معدلة من القانون عينه، بالرقم عينه، والتاريخ عينه، والحال أن المادة القانونية لا تعدل إلا بما يعادلها أو يفوقها قوة (قانون جديد ناسخ مثلا).
لقد تولد لدي في تلك المواقف وأشباهها انطباع بأن الغرفة التشريعية لا تؤدي مهمتها على النحو المناسب، أحرى وهي كثيرا ما تمرر القوانين بعدد محدود من النواب الحاضرين قد لا يبلغ نسبة 20% من مجموع النواب الذين عهد إليهم الشعب بهذه المهمة. وقد نجد لتلك الحالة تخريجات قانونية أو عرفية، لكن ذلك لا يعفينا من التساؤل: أين هم النواب؟ وأذكر بتقدير لرئيس الجمعية الوطنية السابق السيد الشيخ أحمد بايه أنه طلب من النواب بعد التصويت على أحد القوانين ألا يغادروا القاعة وأذن لممثلي الحكومة بالانصراف، ثم طرح بامتعاض مشكل غياب جل النواب عن الجلسات...
***
وعلى بساط خدمة المواطنين، عدت إلى نفسي غير ما مرة أسائلها: ما ذا يستطيع النائب أن يقول لمن يتخذونه ساعي بريد لعرض قضاياهم وشفيعا لحل مشكلاتهم، وذلك حقهم وواجبه، إذا كان بعض الوزراء وكبار المسؤولين يوصدون أبوابهم أمام النائب، أو يفتحون له أبوابهم ولا يفتحون له قلوبهم، بالرغم من التعليمات الرئاسية بتقريب الإدارة من المواطنين. بل إن من الوزراء من كان يمتنع عن منح رقم هاتفه لنائب لا يطلب لديه أي مغنم شخصي! أعود فأقول "بعض الوزراء" حتى لا أظلم وزراء ومسؤولين آخرين يتعاطون بإيجابية وأريحية مدركين أن النائب وسيط اجتماعي وأن لقاءه قد يدخر للوزير أو المسؤول وقتا لو لم يستقبل النائب فيه لاحتاج إلى أضعافه لمقابلة عشرات أو مئات أو آلاف المواطنين الذين يحمل النائب أصواتهم ومطالبهم.
لقد وجدت في تلك الفجوة الكبيرة بين المطلوب من النائب والمتاح له ما يكفي للإحجام، تحت ضغط أسئلة ملحة لنا إليها عودة. (يتبع)