قبل أربع سنوات من الآن نزل أو أنزل الرئيس السابق عن كرسي الحكم؛ كانت الشهور القليلة قبل مغادرته السلطة حبلى بالمتناقضات؛ دعوات لمأمورية ثالثة هنا وهناك؛ كتيبة برلمانية تحمل يافطة الدعوة للمأمورية غير الدستورية، انضوى تحت تلك اليافطة المخجلة ثلثي نواب الشعب! وزاحمهم أصحاب المبادرات التي تنافست الولايات في إظهارها؛ في مشهد يحدث الغثيان لكل من كان له ذوق سياسي سليم، أو سمع ذات مرة عن شكل الديمقراطية، أو استنشق عبير الحرية، أو حكى له أحد ما عن التناوب السلمي على السلطة!.
اختفت تلك الأطماع أو على الأقل تدثرت باحترام مصطنع للدستور؛ مرغمة وهي التي أكدت أفعالها القريبة عدم احترامه، وعبادتها للشخص الذي تنهب بظله، ويبطش هو بعبادتها له!، بهت الداعون والمطبلون وصناع الطواغيت؛ وتغير الوضع عن طريق صناديق الاقتراع في إجماع لم يألف في هذه الربوع؛ وإن كان ذلك الإجماع لا يخلو كأي نظير له من خلص ومن مدسوسين، ومن مرتزقة ومن منافقين أفاكين...
مضت الأيام وانكشفت عن خراب كبير كانت تعيشه البلاد، خزينة خاوية، ديون خارجية مرتفعة، أزمة سياسية خانقة، نهب شامل للثروات؛ ظهر من خلاله رجال أموال ولا أقول أعمال؛ جدد، وطبعا يحتاج كل هؤلاء إلى العبور عبر بوابة المساءلة ونجاحهم عن طريق الإجابة المقنعة على السؤال العريض في فضاء العدالة والإنصاف؛ من أين لك هذا؟.
غادر الرئيس السابق البلاد والمراقبون منقسمون حول تقييم المشهد؛ منهم من أعتقد أن الرجل خرج بمحض إرادته وأنه ساهم في استقرار البلاد من خلال تناوب سلمي على السلطة؛ ومنهم من رأوه على حقيقته التي تثبت هوسه بالسلطة وحبه لجمع المال واللعب بالنفود! وأنه هو الذي لن يتخلى عن هذه الأشياء وله عين تطرف..
أمضى الرجل عدة شهور خارج البلاد ثم عاد إليها وليته لم يفعل؛ عاد قبيل تخليد عيد الاستقلال المجيد؛ ورغم ما قيل عن تحديات أمنية زرعها فإن السلطة الحاكمة أخذت زمام المبادرة بحزم وكياسة وهدوء؛ وتجاوزت البلاد تلك المرحلة واستمرت في مرحلة التجاذب السياسي الذي بدأه الرئيس السابق منذ ليلة عودته الأولى؛ انتهت تلك المرحلة بانسلاخ الحزب الأكبر من التبعية الذهنية التي كانت تسكن بعض قياداته واستقر الحال على الذي يمليه الواقع وتؤكده كل الوقائع السياسية في كل دولة تقوم لنا مقام الشبيه أو النظير؛ مما يؤكد مرجعية حصرية للواجهة السياسية بتبعية مطلقة لمن يدير شؤون البلاد لا غير، وأعقب ذلك هدوء سياسي مشهود؛ أشاد به الجميع، موالاة، ومعارضة..
مضت الأيام؛ ودعا طيف كبير من النواب إلى مساءلة الرئيس السابق ومن تحوم حوله شبهة من كبار معاونيه في بعض الملفات التي ينظر إلى أن خرقها للقانون وانتماءها للفساد شبه مؤكد، تقدم التحقيق البرلماني ورغم ما قيل عنه أو واكبه من مآخذ فإنه كان حدثا هاما يؤسس لما بعده من مبدأ المساءلة وتتبع أموال الشعب وعدم السماح للمسؤولين الكبار بنهبها والعبث بها؛ وليت هذا الملف الذي دخل أروقة القضاء بشكل فعلي منذ فترة، ليته يثمر نتائج رادعة تعيد للمواطن المطحون ماله المسلوب، ومقدرات وطنه المنهوب؛ وتنصف كذلك من لا شبهة تتأكد عليهم؛ فيحيى الناجي على بينة ويهلك اللص عن أختها..
لقد بات من المؤكد ضرورة انتهاء مسار الملف المعروف بملف العشرية وظهور نتائجه، ليكون المواطن البسيط الذي يفتن أحيانا بالحركات البهلوانية ومنطق زعماء العصابات أكثر من الوقوف على حقائق الأمور وتفاصيلها على بينة من أمره، فكثير من المواطنين اليوم يرى اللص بطلا والمخادع سياسيا صادقا!، ولا أدل على ذلك مما كشفت عنه الأيام الماضية على هامش هذيان الرئيس السابق في خرجاته أمام من نهب خيرات بلادهم واحتقر كل الثوابت في وطنهم؛ وطبعا منهم من يبرر ميوله أو افتتانه بذكر بعض الإنجازات، وفعلا يذكر وقائع ومشاهد لكنه لا يدرك حقيقة تكلفتها الباهضة على الدولة والمجتمع مما يخفي جانب السمسرة والتربح والنهب والاختلاس وسوء استغلال السلطة والنفوذ.
وقف الرئيس السابق أمام سكان انواذيبو وتجرد من كل أنواع الحياء وخاطبهم وكأنه مشفق عليهم وهو صاحب اليد التي صفعتهم، والرأس الذي أخذ ما عندهم بمنطقته التي قال عنها حرة وقال السكان أنها مرة؛ فكانت له وللمقربين منهم حديقة خلفية تقتطع منها القطع الأرضية ذات القيمة الفلكية، وهو الذي جعل البحر الملتف حول انواذيبو مسرحا لمنح تراخيص الصيد لكل من وافق مزاجه المتقلب من وزرائه وكبار معاونيه؛ وهو الذي جلب لهم مصانع موكا القاتلة بانبعاثاتها ومعلوم أن قيمة ذلك تحت الطاولة لا تقدر بثمن عادي، وهو الذي كانت له مصانعه العائمة التي ذكرت في التحقيق البرلماني والله أعلم من أي سماء نزلت عليه وهو الذي ذكر بالصوت والصورة أمام الملأ أنه لم يأخذ أوقية واحدة من راتبه الذي ينبغي أن يكون هو مصدر ثرائه! مع العلم بمنع الأنشطة التجارية وما شاكلها عليه؛ إذن نحن أمام لغز كوني محير، المال محفوظ لم ينقص أو يتحرك؛ وثراء صاحبه تجاوز حدود المنطق وأدهش العقل! بل تجاوز ندى ذلك الثراء إلى أن بلل الثرى بالذهب والدرر لكل من كانت له به صلة أو حظوة مجالسة، نحن نعيش منعطفا حاسما ينبغي أن تعود فيه لهذا الشعب الذي ضربه الجوع والعطش في زمن اللعب والعبث بخيراته؛ بقية منها، والله في ذلك هو المعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.