عقب سنوات طويلة من الدبلوماسية التركية الهادئة التي هدفت إلى إحياء النفوذ التاريخي في آسيا الوسطى بالتركيز على الروابط العرقية والدينية وتعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية، جاءت الآلة العسكرية الروسية لتثبت مجدداً تفوقها في التنافس الروسي التركي على النفوذ في المنطقة الاستراتيجية المعقدة.
فبينما كانت تركيا تحاول فهم السياق العام للاحتجاجات التي تفجرت في كازاخستان من أجل اتخاذ موقف واضح للتحرك وإجراء اتصالات سياسية للعب دور في الأزمة التي تطورت بشكل سريع هناك، كان الجيش الروسي قد بدأ بالفعل في نقل دباباته وقواته العسكرية إلى العاصمة الكازاخستانية لتعيد المشهد إلى الوراء كثيراً وتظهر بشكل حاسم مدى فعالية سياسة الحسم العسكري الروسية أمام التحركات التركية الهادئة التي باتت توصف بـ”المترددة أو الخجولة”.
فخلال أول أيام الاحتجاجات، لم يصدر أي بيان أو تصريح رسمي من الجهات الرسمية التركية ولم تجري أي اتصالات أو تحركات رسمية، حيث فضلت أنقرة الانتظار والتروي لاتخاذ موقف “متوازن” من الأحداث التي تحمل في طياتها تعقيدات كبيرة تتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين والموقف الروسي من أي تحرك تركي في منطقة تعتبرها موسكو “حديقتها الخلفية” وجزء من أمنها القومي، بالإضافة إلى الخشية من تعقيدات الوقوع في فخ تصنيف أي موقف تركي لجانب الحكومة بأنه وقوف مع القمع والقتل وضد مطالب الشعب وهي جميعها حساسيات لا تضعها روسيا في اعتباراتها كثيراً.
وعملياً، لم يكن من المتوقع على الإطلاق أن تبادر تركيا بالتحرك عسكرياً باتجاه دعم الرئيس في كازاخستان لاعتبارات كثيرة، أبرزها أن روسيا تدخلت بدافع أمنها القومي وقوتها الحاسمة وبشكل سلس استناداً إلى بند الدفاع المشترك الذي يجمع دول “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وهو ما لا ينطبق على تركيا التي لا تربطها بعد أي اتفاقيات للدفاع المشترك مع كازاخستان وحتى لو طلب منها التدخل العسكري سوف تحتاج إلى إجراءات قانونية طويلة وتصويت برلماني للسماح بنقل قوات عسكرية إلى الخارج، بالإضافة إلى التعقيدات الداخلية والخشية من أن تتهم بدعم نظام ديكتاتوري يقتل متظاهرين.
روسيا تدخلت بدافع أمنها القومي وقوتها الحاسمة استناداً إلى بند الدفاع المشترك
لكن كل ما سبق هي أسباب تفصيلية وتقنية يمكن التغلب عليها لو كانت فكرة التدخل العسكري واردة من حيث المبدأ، لكنها لم تكن واردة عملياً في منطقة تقع على حدود روسيا وما زالت خاضعة لنفوذ موسكو بشكل حاسم، وكما أن روسيا هددت باجتياح أوكرانيا رداً على تقاربها مع الناتو فإنها لن تتردد في غزو كازاخستان لو فكرت تركيا عضو الناتو في التدخل عسكرياً تحت أي ظرف حتى ولو كان بدافع تثبيت حكم الرئيس الكازاخستاني الذي يدين بالولاء لروسيا، يضاف إلى ذلك أن أنقرة لم تكن أي من مصالحها الحيوية المباشرة مهددة لكي تفكر في خوض معركة نفوذ جديدة مع روسيا ولو بشكل غير مباشر في وقت تسعى فيه لتصفير خلافاتها وإعادة تطبيع العلاقات مع معظم دول المنطقة.
فالموقف التركي بدأ بالتروي والصمت، قبل أن يخرج بيان من الخارجية بالدعوة إلى “وقف العنف ودعم كازاخستان” كدولة دون مهاجمة المتظاهرين أو إعلان دعم واضح للرئيس، قبل أن يبدأ أردوغان اتصالات مع كافة رؤساء دول المجلس التركي والدعوة لاجتماع على مستوى وزراء الخارجية سيعقد الثلاثاء، وهو الاجتماع الذي لا يتوقع أن يخرج عنه أكثر من رسائل الدعم العامة بعدما حسمت روسيا الأمر بتدخلها العسكري.
والأحد قال وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو: “نتمنى أن يعود الأمن والسلام والاستقرار لكازاخستان في أقرب وقت، تركيا ودول المجلس التركي مستعدون لتقديم كافة أشكال الدعم لكازاخستان”.
وبينما رأى محللون أن التدخل العسكري الروسي ضربة كبيرة لمشروع تركيا القائم على إعادة تحريك روابطها التاريخية مع دول المجلس التركي (آسيا الوسطى)، يعتبر آخرون أن المشروع التركي يرتكز على سياسة هادئة وطويلة الأمد ترتكز على إعادة إحياء الروابط العرقية والدينية واللغوية والثقافية وأنه حقق تقدماً لافتاً في السنوات الأخيرة بتأسيس المجلس التركي الذي تطور لاحقاً ليصبح “منظمة الدول التركية” وبات يعتبر بمثابة تحالف سياسي واقتصادي يمكن أن يتحول تدريجياً إلى تحالف عسكري.
ومع التحولات الأخيرة التي أفرزتها أزمة كازاخستان، يتوقع أن ينشط التنافس التركي الروسي على النفوذ في آسيا الوسطى ودول المجلس التركي بشكل خاص التي ما زالت تمتلك روسيا الكلمة العليا فيها سياسياً وعسكرياً، إلا أن تركيا تبقى تعول على عمق جذورها العرقية والتاريخية هناك، وترى في سياساتها الهادئة أرضية مهمة لتغيير ولو طفيف وتدريجي سيحقق نتائج أكبر في السنوات والعقود المقبلة.