عمان – «القدس العربي» : طبعاً ودوماً، كان يمكن الاستغناء عن العديد من المشاهد الانفعالية والمتشنجة تحت قبة البرلمان الأردني وخارجها لو توفرت مساحة مرنة سياسياً وممتدة قليلاً في السقف الزمني، لشرح ما يجري للجميع.
بدأت قصة «صفة الاستعجال» عندما يتعلق الأمر بتحديث المنظومة السياسية، ولاحقاً بالتعديلات الدستورية التي أعقبتها، مع الإصرار على أن الوقت يمضي، وأن الأردن في حاجة إلى مشروع تحديث نموذجي وسريع يقدم للمجتمع الدولي عموماً وللإدارة الأمريكية خصوصاً، قبل الدخول في بداية العام 2023 بمرحلة، توقعات ما بعد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن.
إلى الأمام!
ليس سراً في العاصمة عمان ونخبتها بأن الإلحاح في الرؤية المتعلقة بتحديث المنظومة السياسية في البلاد أعقب سلسلة من الإشارات والتفاهمات استراتيجية الطابع مع إدارة الرئيس بايدن بداية الصيف الماضي، حتى أن وتيرة بعض الوزراء الناشطين في الحكومة ألقت بثقلها وراء الإلحاح على «المضي قدماً إلى الأمام» وترك التخوفات والتحفظات». وهي عبارة سمعتها «القدس العربي» مرات عدة من الوزير المعني بملف التنمية السياسية وأحد مهندسي الإيقاعات التنفيذية البارزين، موسى المعايطة. قبل أشهر فقط، وفي كل اجتماعات وغرف القرار، كان السؤال ملحاً: ما هو المشروع الوطني الذي يمكن أن نقدمه كنموذج ينفع الناس في الداخل ويعيد تسويق الأردن في الخارج؟
عند محاولة الإجابة، تقرر مشروع متعلق بالصعود إلى الأمام في ملفي الانتخابات والأحزاب، فشكلت لجنة ملكية عريضة ووضعت وثيقة مثيرة وزرعت مفاهيم جديدة فيها، ليس بضغط أو تدخل من الأمريكيين أو غيرهم، لكن ضمن سياق «محاكاة سياسية» لما يمكن أن يخدم إعادة التموقع والجلوس داخل الغرفة أو على طاولة الدور الإقليمي والدولي بعد ثلاث سنوات من المعاناة والبقاء خارج الغرفة في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، وفي ظل سؤال طالما تردد وعبر عنه المخضرم وزير الخارجية الأسبق ناصر جودة، وطرح في أضيق قنوات القرار وأعمقها إثر الاشتباك مع تفعيلات صفقة القرن: كيف خسرنا.. وكيف نكسب؟
مبكراً، ثمانية أشهر إلى الخلف في التوقيت الزمني، انشغل رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة في تنميط استجابات تكتيكية ووطنية قدر الإمكان، سعياً للإجابة عن سؤال النموذج الذي يمكن تقديمه، فتدخلت الإرادة المرجعية ووضعت الدولة أمام اختبار «تحديث المنظومة» .
والمعيار هنا انتقى بهدوء وعلى شكل اصطياد، منهجية الصعود بالحياة الحزبية، بمعنى المجازفة وترك التحفظات والمخاوف، والانطلاق نحو دور أكبر في الإدارة العامة للحكومة ولمؤسسة البرلمان للأحزاب السياسية، اقتراباً على نحو أو آخر من صيغة لا تزال مختلطة لحكومات أغلبية برلمانية بعد مجلس نواب بحصة حزبية أكبر قد تصل إلى نصف أعضاء المجلس في النهاية على الأقل، وقد تزيد، كما قدر عضو اللجنة الملكية محمد الحجوج، وهو يناقش بعض التفاصيل مع «القدس العربي».
على خلفية الرغبة في الاستثمار بالعلاقات الدولية والأمريكية، ولد مشروع تحديث المنظومة، والهدف الأبعد -كما سربه أحد الوزراء لـ»القدس العربي»- هو إنتاج نموذج أردني سياسي يقلص الضغوط من الإدارة الديمقراطية والمجتمع الدولي على الأردن في جزئية الإصلاح السياسي، ويشغل الرأي العام الداخلي أيضاً في عملية مرسومة على قدر احتواء الاحتقانات التي تتراكم وسط الأردنيين اقتصادياً واجتماعياً جراء المعركة مع الفايروس كورونا والتداعيات.
تلك باختصار خلفية للسردية التي ولد معها مشروع تحديث المنظومة السياسية، وهي سردية ولدت فوراً في الدولة العميقة تساؤلات مرتابة أو تحاول ضبط إيقاعها.
ورشة تصويب المشهد
ورموز اللجنة الملكية المطلقة كانوا يتحدثون مبكراً عن تغيير العقيدة البيروقراطية والأمنية للدولة بخصوص جزئيتي الانتخابات والأحزاب وبصورة جدية، لأن أول ملاحظة قيلت في مؤسسات مرجعية بعد استقبال رئيس الاستخبارات الأمريكي الجديد وليم بيرنز، كانت تلك التي تنصح بفهم جوهر التحولات التي يعنيها انتقال أهم الأجهزة العميقة في الولايات المتحدة إلى سلطة يديرها دبلوماسي وسفير سابق.
في كل حال، بدأت ورشة تصويب المشهد المحلي عبر المنظومة على هذا الأساس، ورئيس اللجنة الملكية سمير الرفاعي كان يكرر ثلاث مرات وبحضور «القدس العربي» ملاحظته التي تقول بأن السقف الملكي في الرؤية والمنهجية أعلى بكثير من سقف النخب واللجنة التي يترأسها، والشارع. استُقطب الإخوان المسلمون قبل غيرهم إلى لجنة الرفاعي بثلاثة مقاعد، لكن ذلك لم يمنع كل المجسات البيروقراطية أو مجسات الدولة العميقة من الحرص على أن لا تنتهي ورشة التصويب وبعناوين تغيير المعتقد الحزبي والانتخابي للدولة بتقديم خدمة مجانية لمكون حزبي سياسي واحد جاهز في المجتمع، وهو التيار الإسلامي.
هذه المخاوف رد عليها عبر «القدس العربي» الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي الشيخ مراد العضايلة، بالقول: «كل ما نريده وكنا نريده هو انتخابات نزيهة فقط، والحكومات الحزبية ليست مطلباً ملحاً للشعب».
عملياً، وفي فترة قصيرة، زاد الحديث خلف المسرح عن ضمانات لا بد من توفيرها لكي تنتعش الحياة الحزبية في البلاد، وعن حصة للدولة العميقة ينبغي أن ترقى خارج النزاع الحزبي، وعن ثقافة اجتماعية متكرسة ليست متحمسة للأحزاب. وعند التفاعل مع هذه المعطيات في حوارات نخب الدولة وحراسها، برزت بعض التناقضات وولدت مفاهيم الاحتياط والتحوط، التي ترجمت لاحقاً بسلسلة تعديلات دستورية أثارت الجدل، ليس لأنها سالبة لحريات الأردنيين حقاً، لكن ببساطة لأنها مستعجلة ولم تشرح للشعب وقواه كما ينبغي، وأيضاً لأنها خرجت بدون تفسير ومبادرة حكومية عن سياق تحديث المنظومة.
حصلت أخطاء لا يمكن إنكارها، لكن يميل بعض المراقبين لاعتبار الإلحاح على تعديلات الدستور التي تخفف من صلاحيات الحكومات مستقبلاً بمثابة الدليل الأكبر والقرينة الأهم على جدية التفكير بالتحول وتحديث المنظومة، الأمر الذي يسقط لسبب غامض من حسابات كل المعترضين في الشارع، مع أن التجربة هي التي تقول بأن الحكومات طوال الوقت تسيء التصرف بصلاحياتها الدستورية، أو لا تمارسها بشكل منتج.