يوم حافل بالأنشطة التربوية؛ حلّ وزير التهذيب الوطني وبعض كبار معاونيه ببيت التعليم العتيق؛ للقاء المؤلفين لأول مرة منذ توليه مسؤولية تسيير قطاعٍ يُشكل التأليف فيه إكسير العطاء، فبجودته وإتقانه يكون المدرس مسلح بالدعامة التربوية التي تمكنه من أداء مهامه في منتهى الجدوائية، وفي غياب ذلك تحل به لعنة ضياع الجهد..
أبان الوزير في هذا اللقاء عن رحابة صدر منقطعة النظير، وأبدى استعداده التام لأن يسمع من الجميع وجسّد ذلك من خلال تجاوزه كثيرا لعدد المتدخلين المحدد في بداية اللقاء؛ فظل يستمع ويشير بالسماح للمتدخلين حتى شارك أكبر عدد في طرح مشاكل التأليف وما يلامسه من مشاكل المنظومة التربوية.
تحدث الجميع عن أهمية التأليف وأظهروا ما يصاحبه من صعوبات، وطالب بعضهم باستمرار التعويضات لتكون علاوة شهرية بدل الأعطية المطوقة بزمن المراجعة أو التأليف فقط، وكشفت بعض المداخلات عن مشاكل ترافق الإنتاج التربوي، وما يترتب على ذلك من ضرر وضياع للجهود، وكان رد الوزير مقنعا حيث أكد أن المراجعة تكتسب أهميتها من الدوافع المؤدية لها، مهما كلف ذلك من زمن، ومهما أدى إلي العدول عن منتج تربوي تبين في ما بعد ضرورة التخلي عنه أو التمسك بأفضل منه أو تحيينه تحيينا يلبي الطلب ويحقق الغاية التربوية.
وكان لافتا تعرية الظروف الصعبة التي يعاني منها بيت التعليم العتيق من هشاشة للطابعات التي تنتمي للجيل القديم مع التنبيه أن جلّ المخزون الموجود مركزيا وجهويا هو من الطبعات القديمة، أي بمعنى أدق أنه محتوى تربويا لا يصلح للتداول المدرسي، وإن كان يفيد في البحث الذي يتوقف عليه جزء كبير من نشاط المؤلفين، وكان الوزير دقيقا في تعليقه على هذه الجزئية التي آثر فيها التركيز على ذكر الكتب المطبوعة في السنة الماضية مع بداية الإصلاح الجديد وفق الاعتماد المنهجي المدعوم بتناغم المنهاج التربوي مع الكتاب المدرسي في ترجمة التلاقي الجديد بين المفتشية والمعهد التربوي عكس ما كان سائدا في الماضي من تنافر خفي ضيّع الجهد كثيرا.. وأعترف بكل شجاعة أن المعهد التربوي لا يتوفر لحد الساعة على الموارد التي تمكنه من تأدية واجبه بالشكل المطلوب؛ متعهدا في ذات الوقت بالعمل مستقبلا على حل المشكل والتمكين له بالوسائل الضرورية، مشددا على أن ذلك يبدأ بزيادة التضحية وإنعاش روح العطاء التي تزيد من إقناع الشركاء التربويين وتعين على تجاوز كل العقبات مع استمرار ونجاح الشراكة؛ وذكر في نفس السياق شراكة أوروبية خمسية تبدأ من 2022 إلى 2027 ستساعد كثيرا في حل معضلة عدم توفر الكتاب المدرسي بالكم الكافي والشكل المطلوب.
في هذا اللقاء الاستثنائي كنتُ مصرًا على التدخل لإيصال بعض النقاط إلى الوزير بشكل مباشر، وعندما أتيحت لي فرصة ذلك؛ ركّزتُ على النقاط التالية:
-أولا: ضرورة استحداث سلك للمؤلفين؛ الذي بدونه لا يمكن أن ينسجم التأليف، وقد لا يستمر بالحد الأدنى من التناسق، فمعروف عندنا أن أغلب التحولات التي تشهدها الإدارات والوزارات بالأحرى تتأثر بها كل الأشياء التي تعتمد على الاختيار والشراكة المؤقتة؛ فمثلا تصوروا ما يحدث من تذبذب واضطراب لو أن المفتشين مثلا يُختارون بشكل مؤقت؛ قبيل كل فترة تفتيش أو تأطير تربوي بدل وجودهم في سلك ناظم ومنتظم، وتصوروا ما سيحدث لو أن المكونين مثلا يُختارون أيضا بشكل مؤقت عند دخول كل دفعة من -الطلاب المدرسين- مدارس التكوين؛ سيكون حتما هناك اختلال واختلاف وارتجاج عند كل اختيار، وسيكون الضرر المترتب على الاضطراب والتذبذب يمنع أو يحد من الجدوائية التي تَسكنُ الانتظام والاستمرارية، ومن هنا تتنزل أهمية اعتماد سلك للمؤلفين يخضع دائما للتكوين، ويتيح الفرصة لولوج الأفضل ثم الأفضل عن طريق مسابقة؛ تُنصف الأجدر ولا تتحرك تبعا للعاطفة التي إن نجت منها اليوم فلن تنجوَّ منها غدا.. وعلى الوزير أن يأخذ زمام المبادرة في هذه القضية ويؤثر نفسه بفضيلة ذكر إنجازها، ولا يؤثر بها غيره أبدا.
-ثانيا: في النقطة الثانية نبّهتُ الوزير على أن المعاهد التربوية الجهوية تعاني جدا ولا تتوفر على ميزانيات أما السيارات فذلك أبعد؛ وطبعا مما هو معلوم ضرورة؛ لا يمكن تصور إدارة قائمة بدون ميزانية تسيير ثابتة ومستمرة؛ تمكنها من أداء مهامها، مهما كانت ضآلتها، أما عن هشاشة البنايات وضرورة الترميم والتزويد بمعدات العمل، فحدث ولا صمت ولا حرج.
-ثالثا: قبل تقديم النقطة الثالثة توقفت قائلا أن النقطتين السالفتين تشكلان مطلبا عاما لا يقتصر على المعاهد التربوية الجهوية بل يتعدى ذلك ليتأثر به كل بيت موريتاني؛ لأن الخدمة موجهة إليه وتتأثر بكل ما يحد من فاعليتها، وأشرت إلى أن هناك نقاط تتعلق بالمديرين لا أريد أن أطرحها للخصوصية التي قد تُشمُّ فيها، فألح على الوزير وطلب مني طرحها دون تحفظ؛ أدركت حينها أن الرجل يحب أن يسمع بصدق ويريد أن يفعل شيئا، وعندها ذكرت له الخلل الحاصل في رواتب المديرين الجهوين الذين يَنُصُّ المرسوم رقم 106/93 الصادر بتاريخ 1993 في مادته السادسة عشر على أنهم يتماثلون ماديا مع رؤساء القطاعات بالمعهد التربوي؛ عكس ما هو حاصل من تماثلهم إجرائيا مع رؤساء المصالح بالمعهد التربوي..
وبعد انتهاء الأسئلة والمداخلات بدأ الوزير في الرد على النقاط التي دونها ويبدو أنه لم يُهمل فيها جزئية واحدة مما تقدم به الإخوة المتدخلون؛ فكان رده شافيا وافيا في كثير من النقاط وأرجع المسؤولية في بعض المسائل إلى أصحاب الاختصاص الفني من معاونيه، لكنه ألح عليهم بأخذ زمام مبادرة التصحيح في كل ما يستدعي ذلك؛ وهنا يلزم تنبيه الوزير بضرورة متابعته الشخصية لكل ما أمر مباشرة أو ألمح إشارة إلى ضرورة تسويته.
أعجبني رد الوزير كثيرا على أحد المفتشين عندما حاول مغالطته بطلبه استحداث مصلحة للإنتاج التربوي في الوزارة! فكان الرد قاطعا أن الإنتاج التربوي مسؤول عنه المعهد التربوي وبه قطاع مختص في الإنتاج التربوي يعد من أهم قطاعاته إضافة إلى قطاع المطبعة والنشر، دون أن ينقص ذلك من قيمة القطاعين الآخرين قطاع التقويم وقطاع الشؤون الإدارية.
وفي الأخير نشير إلى أن الوزير في معرض ردوده كشف عن صفقة لطباعة الكتب يُعمل من خلالها على توفير الحاجة من الكتب خاصة في سنوات الإصلاح التي قدمت كتبها العام الماضي بشكل تجريبي، وهنا ننبهه إلى ضرورة تفعيل انتشار الكتاب الرقمي وتسهيل تمكين كل الأهالي منه للحد من ندرة الكتب ريثما تتغلب الوزارة على ذلك، وهنا نقترح تزويد كل معهد تربوي جهوي بوحدة معلوماتية خاصة بتلبية طلبات الكتب الرقمية مجانا، والقضية سهلة جدا، و[بإمكان أي عنصر من عناصر المعهد التربوي الجهوي القيام بها إن هو مُكِّن من لوازم ذلك دون الحاجة إلى استجلاب أشخاص جدد وزيادة الطاقم الذي قد يُنظر إليه كَعِلّةٍ مانعة.