تعيش العاصمة الموريتانية نواكشوط منذ سنوات على وقع اختلالات أمنية كبيرة، دفع سكانها من أرواحهم وأعراضهم، وأموالهم الكثير دون أن تتوقف، وسط انفعال بالأحداث لحظة وقوعها، وتجاوز الأمور بعد ذلك، دون وضع خطط أمنية وتربوية، أواتخاذ تدابير وقائية للحد من التدهور الحاصل فى المنظومة الأخلاقية للمجتمع، وفرض هيبة الدولة بقوة القانون، واعطاء فسحة لغير المخالف من أجل أن يعيش دون أن تكدر صفوه اجراءات أمنية استعراضية، أو يتعرض لمخاطر أمنية بفعل ماراكمته العاصمة بين جوانبها من اختلالات جد مخيفة.
وقد ساهمت الإجراءات الرامية إلى حل إشكال "الكزرة" وإعادة تخطيط العاصمة نواكشوط فى اتساع الخرق على الأجهزة الأمنية المكلفة بضبط الوضع الداخلى، رغم أهمية القرارات المتخذة من أجل تأمين قطعة أرضية لكل مواطن.
إن الخطط التى تم اتخاذها من قبل قطاع الإسكان لم تصاحبها خطط مشابهة من قبل قطاعات حيوية معنية بالعملية وتداعياتها الإجتماعية والأمنية والثقافية، فغابت الداخلية والدفاع والشؤون الإسلامية والشؤون الإجتماعية ومفوضية الأمن الغذائي والثقافة، ولم يرق قطاع العدالة إلى الواقع الجديد الذى فرضته الخطط الحكومية الرامية لاستحداث آلاف الوحدات السكنية، وخلق مدن بأكملها، رغم شعور الجميع بأهمية تكامل الجهود ومخاطر الجريمة العابرة للأحياء والمقاطعات، وضررها الملاحظ كل يوم !.
إن الدفع بالآلاف من السكان إلى أحياء الترحيل فى الرياض وعرفات وتوجنين ودار النعيم، دون خلق بنية تحتية أمنية قادرة على ضبط ومسايرة إعادة الإنتشار الجديد للمرحلين من نقاط البؤس ، وغياب أي أنشطة ثقافية تملأ الفراغ الناجم عن البعد عن مركز المدينة فى مجتمع جل مراهقيه من العاطلين عن العمل والمتسربين من المدرسة، وتراجع السياسات الإجتماعية القادرة على احتضان الفقراء الذين ألقي بهم فى مناطق مفتوحة، تفتقر لخدمة الكهرباء والمياه وتنعدم فيها الأسواق والمراكز الحضرية القادرة على توفير فرص عمل – ولو محدودة- لطالبيها، كلها أمور تركت المنطقة تتحول من فضاء لحل إشكال "الكزرة" إلى مصانع لتفريخ اللصوص وتدريب القتلة، ومسرحا لعمليات النشل والإغتصاب والإحتكام لمنطق القوة، ناهيك عن الشحن الذى صاحب العشرية الأخيرة، بفعل التجاذب بين أطراف المشهد، والأزمة السياسية المستحكمة بين السلطة ومعارضيها، والضخ الإعلامى المستمر من أجل تجريد الحاكم من شرعيته والتعريض بمؤسسات الدولة، لدرجة التحريض العلنى ضد الجيش وقوى الأمن، والتعامل معهم كأدوات لترسيخ الإستبداد وحمايته، والتعامل مع رموز الجيش كقوى مسؤولة عن كل مآسى البلد منذ نكسة قادة الحزب الواحد عام 1978.
إن العهد الذى قطعه رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزوانى على نفسه عشية انتخابه رئيسا للجمهورية يونيو 2019 بالعمل على "بناء دولة قوية ومتطورة ينعم كافة مواطنيها دون تمييز بأعلى مستويات الأمن والرفاهية والرخاء" يتطلب من كل معاونيه بل وداعميه التعامل مع الأوضاع بروح تستشعر قيمة اللحظة التاريخية، ومخاطر التغاضى عن الإخفاقات المسجلة فى بعض الأحيان، والتى تربك السير الحسن للسلطة باتجاه حل الإشكالات الكبيرة وتغطى كل المنجز مهما كان حجمه ونوعية المشاريع المعلنة، لأن الفاقد للإحساس بالأمن، لايهمه تطورت الحكامة أو أنتعش الإقتصاد أو أقرت خطط جريئة لهيكلة المشاريع أو تم ضمان تمويل المشاريع المرهقة للعاملين فى مجال التخطيط والإستثمار.
إن الوضعية الحالية تتطلب من صناع القرار فى البلد، ونشطاء المجتمع المدنى، وقادة الأحزاب السياسية بمجمل تشكيلاتها، ورموز الإعلام الرسمي والمستقل، التعامل بمنطق مختلف مع الأحداث الحالية ونقاش تداعياتها، واقرار جملة من القرارات الجريئة، واتخاذ بعض المبادرات الرامية إلى الحد من الإنحدار السريع نحو هاوية سحقية، حصادها القتل والإختطاف والإغتصاب والجريمة بكل أنواعها.
ومن أبرز الإجراءات المطلوبة الآن :
1- تعزيز الحضور الأمنى فى مناطق الترحيل والرياض وتوجنين ودار النعيم والميناء، ورفع عدد العاملين فى مفوضيات الشرطة بالولايات الثلاثة، ورفع الجاهزية لدى المكلفين بمتابعة الوضعية الأمنية، عبر اقتناء سيارات جديدة، وتحديث عمل المفوضيات ومدها بنظم للمعلوماتية.
2- تشكيل فرق متخصصة فى البحث والمتابعة بكل ولاية، وتوسيع عمل شرطة النجدة ليشمل المناطق المذكورة.
3- فتح فروع جديدة لمركز إيواء الأطفال المتنازعين مع القانون، وضبط تسييره ومكافحة أي شكل من أشكال الفساد فيه أو هدر الأموال الموجهة إليه، ليقوم بدوره كمؤسسة إصلاحية، بدل إحالة القصر والأطفال إلى السجون التى باتت من أهم معاقل الجريمة المنظمة وتدريب المبتدئين.
4- تعزيز الرقابة حول المدارس العمومية التى باتت سوحها والمنازل المحيطة بها ، مجرد وكر دائم لعشرات المنحرفين وصغار اللصوص ، الذين يتصيدون الضحايا بشكل علنى ومستفز للآلاف من الأسر، والتعامل مع المخالفين بقوة القانون، عبر وضعهم تحت الرقابة القضائية المشددة وإشعارهم بهيبة الدولة وخطورة الأفعال المجرمة بنص القانون.
5- إعادة النظر فى بعض المعاملات التجارية، والتى تتم بشكل يومى مع القصر والمنحرفين، وخصوصا فى مجال إيجار المنازل، والشقق المفروشة، ووكلات تأجير السيارات بقلب العاصمة نواكشوط.
6- تعزيز دور القطاعات الخدمية فى المناطق الفقيرة، عبر توزيع المواد الغذائية بشكل دورى، وتشجيع الأنشطة المدرة لداخل بأحزمة الفقر، وخلق فرص عمل للعاطلين عبر مشاريع جديدة قادرة على استقطاب الآلاف من الشباب الذين تقطعت بهم السبل داخل العاصمة، بفعل التسرب المدرسى، وغياب الكفاءة والتكوين، وتراجع الإعتماد على اليد العاملة المحلية فى الكثير من الحرف المطلوبة بموريتانيا، وهو ماسهل استقطاب أكثر من مليون أجنبى لمزاولة بعض المهن داخل البلاد، بحسب بعض التصريحات الرسمية المتداولة فى الإعلام خلال الأسابيع الأخيرة.
7- تنظيم أنشطة ثقافية وسياسية بأطراف المدينة المنكوبة بالفقر، وإطلاق دوريات رياضية فى الأحياء الشعبية، وتعزيز البنية الثقافية والرياضية فيها، من أجل اشغال الآلاف من الشباب وفتح آفاق جديدة أمامهم، بدل تركهم ضحية للفراغ والفقر ومتابعة أفلام العنف والجريمة المنظمة.
8- تعزيز البنية القضائية بالولايات الثلاثة، وتسريع الحسم فى الملفات المحالة للقضاء، والتعامل بصرامة مع المخالفات المرتبطة بالمخدرات والأعراض والدماء، مهما كانت وضعية المشمولين فيها، لوضع حد للتدهور الحاصل والإنتشار المذهل للجرائم خلال السنوات الأخيرة.
9- الصرامة فى محاربة المخدرات وتشكيل فرق توعية وأنشطة جماهرية ضد الظاهرة، وحث الأسر على التبليغ عن أبنائها المتورطين فى المجال، وبناء مركز لمعالجة ضحايا الإدمان، والضرب بيد من حدد على تجار الحشيش، وباعة الأدوية المستعملة لأغراض مشابهة دون وصفة طبية من أخصائي مشهور.
10- تنشيط مؤسسة المسجد داخل مجمل الأحياء الشعبية، لتلعب دورها فى التوجيه، والنصح والإرشاد، ودعوة الناس إلى الخير، والقيام بدورها التقليدى فى النهي عن المنكر والحث على الأخلاق، وضمان إشراك الجمهور فى الجهود المقامة بها لمحاربة الجريمة.
(*) مدير موقع زهرة شنقيط