مدينة الرشيد.. قلعة الصمود وواحة الجمال

جمعة, 23/10/2020 - 09:23

لم أكن أرغب في مغادرة مدينة تجكجة الوادعة، التي حدثتكم عنها في تحقيق سابق؛ دون أن أعرج على "مركز الرشيد" الذي انتبذ مكانا قصيا بين الجبال الداكنة  في الشمال الغربي من عاصمة الولاية.

كان الوقت عصرا، والمطر يرسل زخات خفيفة، والشمس تنظر على استحياء من بين الغيوم، حين انطلقت بنا سيارة (رينو) متوجهة إلى قلعة الصمود وواحة الجمال.

تحقيق: محمد ولد سيدناعمر/ مدينة الرشيد

أشجان من مذياع  عتيق

كان السائق جعفر يهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال، حين انبعث صوت اللولة(ديمي) من مذياع سيارته العتيق وهي تصدح بصوتها العذب في تلك الفجاج:

فتى يُمسي ويُصبح في الرشيدِ            يُعلل بالنسيم وبالنشيدِ

وأكمامُ النخيل تريه زهـــــــوا            على جنبات ذا القصر المشيدِ

يَحِن لأهله وفُضُول مــــــــال             لعمرُ الله لم يكُ بالرشيد

كنت أعبر للمرة الأولى الطريق الرابط بين ولايتي: (آدرار وتكانت) ورغم أن الأشغال فيه انتهت قبل شهور؛ إلا أنه كان طريقا مترهلا، مليئا بالشقوق ،ويهدده زحف الرمال .

تتطاول أعذاق النخيل مشرئبة إلى الأعلى بـقرية لحويطات الجميلة؛ وكأنها تتوسل الغيوم المتناثرة في صفحة السماء، أن تسح عليها سحابا مباركا.

لفت انتباهي طفل كان يزيح الرمال المتراكمة عن الطريق ـ حسب جهده ـ مقابل ما تجود به أكف العابرين تشجيعا له على عمله التطوعي.

ونحن نقترب من الرشيد، مررنا بلافتة ثُبتت على ناصية الطريق، كتب عليها بخط واضح وجميل (المطار) وكان عبارة عن مدرج  واسع، نحتته الطبيعة من الصخور الداكنة الصلبة، وقد حط به عدد من الطائرات بعضها يحمل سياحا والبعض الآخر يقل مسؤولين كبارا في الدولة.

حديث التاريخ...

ونحن نقف على هضبة عالية تشرف على المدينة، تراءت لنا أطلال الرشيد المندثر، كانت خير شاهد على قسوة مستعمر غاشم، دك المدينة بمدفعيته الثقيلة، ذات يوم من أيام المقاومة المجيدة،  ردا على انكساراته في معركة "النيملان".

 كان يوما مشؤوما وحزينا جدا؛ استشهد فيه العديد من المجاهدين، ونصبت فيه أعواد المشانق لمن تم القبض عليهم (وقعت هذه الأحداث قبل 100 عام من الآن) .

تأسست الرشيد ـ كما يقول المؤرخون ـ قبل نحو ثلاثة قرون؛ وكانت مركزا تجاريا هاما يقع على طريق القوافل المتجهة من بلاد السودان إلى الأطلسي.

وتتفق المصادر التاريخية أن مؤسس المدينة هو أحمد ولد سيد ألمين (أمينوه) عاصر محمد ولد أحمد شين والعلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، وكانوا يجتمعون من حين لآخر في الرشيد، لتدارس أوضاع المنطقة؛ وفي أحد هذه الاجتماعات، أشار العلامة سيدي عبد الله   ولد الحاج إبراهيم، على ولد سيد ألمين بضرورة تنصيب ولد أعمر شين أميرا على (تكانت)

توطنت بالبلدة حضارات بربرية وزنجية وإن كان الباحثون الموريتانيون والفرنسيون الذين كتبوا عن المنطقة لم يولوها كبير اهتمام.

في مقابلة مع برنامج "موريتانيا الأعماق" قال الوزير السابق محمد محمود ولد ودادي وهو من أبناء البلدة أن الرشيد عرف قبل هذه التسمية بـ (آغ بمبرت) وتعني بالصنهاجية " البمباري الصغير" وتؤكد هذه التسمية ما ذهب إليه بعض الباحثين الذين تحدثوا عن قبائل زنجية استوطنت المكان،وأضاف أنه كانت توجد به قبيلتان إحداهما تسمى (تاس) والأخرى(ترتلاس) وكانت بينهما حروب على الزعامة تسببت في خراب المدينة.

آمن مؤسس الرشيد أحمد ولد سيد الأمين بتطوير المدينة، حيث جلب لها النخل من شنقيط المدينة التاريخية، وحولها إلى نقطة تتزود منها القوافل في سيرها الطويل بالملح والحبوب عبر طريقي (الملح والزرع) وهما طريقان مشهوران، كانت تتعثر بهما السيارات أياما، وتصاب الإبل بالنقب في أخفافها من وعورتهما.

بالقرب من الرشيد المهدم، بنيت الرشيد الحديثة، وهي قرية صغيرة هادئة، تحاول أن تجاري العصرنة. بعد نصف عام من العزلة أصبح الطريق الرابط بين (آدرار وتكانت) يمر من وسطها.

اضطرت شركة (GTM) المسؤولة عن تعبيد ذلك الطريق، لشق الجبل إلى نصفين، وبقيت بعض المنازل عالقة فوق قمته، مما اضطرها إلى حفر سلالم في الجبل لربط تلك المنازل بالأرض، ومما يثير العجب لدى ضيوف القرية،  رؤية  الكبار في السن وهم يتسلقون هذه السلالم بأريحية،  للوصول إلى بيوتهم.

توجد بالمدينة بنية تحتية عصرية من إنارة وحنفيات عمومية ومستوصف ومدارس وبها نُزل لاستقبال السياح الذين يفدون إليها بكثرة في موسم " الكيطنة"

أدب وطرب

يقع الرشيد  في الجزء الشمالي من ولاية تكانت حيث تختزن الطبيعة أبهى مناظرها، وتمتد بطحاؤه 30 كلم برملها الصقيل اللامع وواحات نخلها الغناء، وينابيعها العذبة المتدفقة.

في عهود سالفة، تعرض نخل الرشيد لعمليات اجتثاث، لكنه كان في كل مرة يخرج من تحت الصخور، وكأنه الفينيق، باعثا الحياة في البلدة المسكونة بالصمود والجمال.

ولئن كانت هذه الربوع تنتج أجود أنواع التمر: تَنَجْدَفِتْ، وأُمْ ادْلِي، وأم اعريش.. فإنها أنجبت كذلك أهم الأدباء الذين تغنوا بجمالها وخلدوها على كل لسان، وكان من أكثرهم صيتا محمد ولد آدبه، ومحمد بوسروال وولد أجه ومحمد الأمين ولد ختار الذي اختار التعبير بالفصحى بدلا من العامية.

وقد اشتهر هؤلاء الشعراء بوصف الطبيعة والغزل العذري؛ وخلد أشعارهم المرحوم سيداتي ولد آبه وابنته المغفور لها ديمي وكذا الخليفة وسدوم أبناء أيده.

يسعى نادي أصدقاء الرشيد إلى نفض الغبار عن التاريخ المجيد لهذه  البلدة؛ وإعادة البريق إلى واجهتها الثقافية والتاريخية، كما يحدوهم الأمل إلى ترميم المدينة القديمة والحفاظ على ما تبقى من تراث الأجداد، ويأملون أن تساعدهم السلطات المعنية على تحقيق تلك الأهداف.

*****

مدينة الرشيد عراقة في التاريخ؛ وجمال في الطبيعة وعناق أزلي بين الأدب والطرب..يحكي كل شبر فيها عن مقاومة المستعمر؛ وتحت فَيْءِ كل نخلة فيها حديث ذي شجون..إنها  مدينة الشعر والجمال والكرم والعراقة والتاريخ الجميل.

 

 

 

 

 

  

 

 

إعلانات

 

 

 

تابعنا على فيسبوك