رحلة إلى مدينـــة تجـكـجة.. عنـاق بــين النـــخيـــل والعـــلــم والتراث (صور)

اثنين, 19/10/2020 - 09:42

بين الجبال وعلى  طول  طريق متعرج؛ والسيارة تتسلق بحذر شديد قمة "أشَـتِـفْ" تترأى لك بحيرة تامورت انعاج؛ لتبدأ رحلة صعود أخرى، حيث توصلك الطريق إلى هضبة "تكانت" ومن ثم إلى  مدينة تجكجة التي تأسست في نهاية القرن 17م.

تتميز  المدينة ذات الأرض المكسوة بالصخور الحمراء والرمل الأرجواني؛ بأنها مدينة  النخيل والأولياء  والصالحين والعلماء والأضرحة والمقابر  وأغرب حوادث الطيران في شبه المنطقة.  

عند مدخل المدينة الوحيد، تستقبلك أعمدة الطاقة الشمسية وسيقان نخل مصممة من الحجارة رمزا لأصالة المدينة؛ قبل أن توصلك الطريق إلى قلبها النابض حيث ساحة الاستقلال الشهيرة.

                               تحقيق: محمد ولد سيدناعمر/ مدينة تجكجة

 

ثلاثية الأمن والجبال والنخيل

 تعود تسمية المدينة "تجكجة"إلى اللغة البربرية ومعناها(الخضراء) حيث ساهمت الزراعة وخاصة أشجار النخيل في التقري بها قديما .

من مفارقات الواقع الحالي بالمدينة أنها لم تعد خضراء؛ لأنها ببساطة تعاني نقصا كبيرا في المياه.

توجد بالمدينة عدة أحياء "الشامسيات والواسطة والعركوب والمدينة... وهي أحياء طابعها المعماري يختلط فيه القديم بالجديد، شوارعها فسيحة وهادئة ومن الغريب الطريف الذي عرفت عنها أنها مدينة لا توجد بها كلاب نظرا لدرجة الأمن الشامل فيها .

في الطرف الغربي من المدينة يقع حي "القديمة"ٍ وهو أقدم أحيائها ..يتميز بطابعه التراثي الجميل؛ ويعود تاريخ تأسيسه إلى قرون خلت، وتحديدا في العام 1680 وقد ظل يحتفظ بطابعه القديم، رغم عوادي الزمن، ورياح العولمة، وتسلل الأسمنت.

 يتميز الحيٍ بدقة تخطيطه وتشابه أبنيته التي تحاكي النمط المعماري للمدن القديمة.

الداخل للحي القديم يرى نفسه وسط متاهة، أزقة ضيقة متعرجة، يصل عرضها في بعض الأحيان إلى أقل من نصف متر؛ وأبنية حولها معول الزمن إلى أكوام من الحجارة.

في طريقي إلى بيت "الطالب ولد حنكوش" وهو أحد التلاميذ المقربين لأشهر علماء المدينة  العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم؛ وأنا أقتفي أثر دليلي كاد الظلام يلف المكان، ونحن نذرع الأزقة الضيقة المتشابهة قبل أن نظفر في طريقنا بأحد أحفاده المقيمين بالقرب من وجهتنا حيث قبل وبتواضع جم  أن يكون دليلا لنا إلى منزل جده العلامة.

يقع في هذا الحي بيت العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم بالقرب من الجامع الذي كان يصلي فيه وهنا أيضا توجد آثار محظرته التي أسماها "ادويرة " حيث ينتقل إليها الطلاب الذين بلغوا مرحلة التخصص.

من أشهر الطرق في هذا الحي: تجريت اصنادرة، تجريت الكحلة، لمسكمة، أم اكفية.

حي مخلد في التراث الوطني ..

اعتمدت الدولة "حي القديمة" العتيق تراثا وطنيا وشيئا فشيئا بدأت ترتفع أصوات منظمات أهلية تطالب بالعمل على ضمه إلى التراث العالمي.

تعمل تلك المنظمات على تحسيس سكان الحي بأهمية المحافظة على محاكاة النمط القديم في المباني التي تشيد في الحي، وتضم جهودها إلى الجهد المبذول من وزارة الثقافة والصناعة  التقليدية والعلاقات مع البرلمان في هذا الصدد.

بدورها أطلقت وزارة الثقافة في السنوات الأخيرة برنامجا لإحياء التراث القيمي يأمل السكان أن يشمل حيهم بمزيد من العناية.

منظمات أهلية تدعو لتضافر الجهود من كافة المهتمين بالتراث الحضاري والإنساني لحماية القديمة و تلافي ما أمكن من إرثها العريق، وخاصة تراث علامتها سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم الذي ما يزال بيته شاهدا على حقبة مرت كانت زاخرة بالعطاء المعرفي والإشعاع الثقافي.

أموات بين الأحياء!!

خمسة أيام قضيتها في تجكجة، وأنا أذرع شوارعها المعبدة وطرقاتها الضيقة قبل شروق الشمس، تعرفت  من خلالها على أحياء المدينة التي يطبعها الهدوء والسكينة والهواء النقي.

إنها مدينة تساعد سكانها على ممارسة الرياضة حيث تجدهم في الصباح الباكر في الشوارع وداخل سور المطار يمارسون أنواعا مختلفة من الرياضة بشغف كبير. 

مشهد وحيد هالني كثيرا، وهو منظر المقابر المنتشرة بين الأحياء السكنية، وبالقرب من الأسواق والمحلات التجارية، وحتى ملاعب الكرة  كما هو  في مقبرتي "لمريفك" و"لكريفة" حيث ترتفع أصوات شباب يلعبون كرة القدم  بالقرب من هاتين المقبرتين.

البو ولد تلميت.. أحد سكان المدينة، أكد أن وجود المقابر بين البيوت سببه  ندرة وسائل النقل في تلك العهود البعيدة؛ كما برر أيضا وجودها بحرص ساكنة تجكجة على تعهد وزيارة موتاهم، خاصة في أيام الجمع فالعلاقة بالميت عندنا ـ يقول ـ لا تنقطع بمجرد دفنه كما يحدث عند الكثيرين في المدن الكبيرة.

بدوره محمد سالم ولد العتيق صاحب محل، رجل نحيف الجسم اشتعل رأسه شيبا، يعيش بالمدينة منذ نعومة أظافره، أثنى على حالة الأمن والسكينة التي تشهدها المدينة، حيث تكاد تنعدم فيها الجرائم ويعيش أهلها في سلم اجتماعي نادر، ربما يكون سببه واعظ الموت الذي يعترضك في الطريق بل وفي كل مكان بحسب قوله.

المقابر في المدينة كانت تعاني من الإهمال، قبل أن تطلق المنظمات الشبابية صرخة استغاثة لإعادة الاعتبار لها بعد أن كانت مسرحا للحيوانات السائبة وهو ما تم بالفعل.

السلطات المحلية شرعت من جهتها في  تسييج وترميم بعض منها بطريقة تتماشى وطابع المدينة التراثي، حيث تم العمل على وضع جدران صغيرة من الحجارة التي تشتهر بها المدينة، لدعم السياج الحديدي الذي يحيط بالأضرحة.

مدينة واحات بامتياز!

يرجع الفضل في تأسست مدينة تجكجة إلى واحات النخيل، وكثيرا ما وفد إليها الزوار للسياحة والبحث عن جيد الرطب على غرار باقي واحات نخيل الولاية .

تشكل واحات النخيل منظرا يزين ولاية تكانت  بما فيها عاصمتها تجكجة وتوجد بها 250 ألف نخلة.

يقام بها "مهرجان التمور" للتعريف بالولاية وهو تظاهرة ثقافية وطنية كبرى، يلتقي فيها الشعراء وتنظم فيها السهرات والمسابقات على هامش موسم قطف التمور المعروف بـ "الكيطنه" ويتميز نخيلها بأنه لا ينتج إلا أجود أنواع التمور.

 ورغم ذلك فقد أصبحت واحات النخيل مهددة بجفاف كبير؛ نتيجة نقص المياه وضعف الأمطار وندرتها في بعض الأحيان.

ويطالب مهتمون بتطوير زراعة الواحات بضرورة تشييد "سـد بغدادة " للتحكم في مياه الأمطار من  أجل سقاية أفضل للواحات.

كما ينبهون إلى أن داء السوسة الحمراء يحدق  بواحات النخيل في تكانت عامة؛ ويطالبون الدولة بالتدخل للتصدي له وتعريف المزارعين بطرق الوقاية منه .

طائرة تجكجة ..الجرح العميق

أسوأ حوادث الطيران المدني بشبه المنطقة  وقعت  في هذه المدينة قبل 26 عاما .  

كان يوما مغبرا وحزينا جدا؛ حيث تحطمت طائرة من نوع (فوكيرـ 28) على مدرج مطار تجكجة وهي تقل حوالي 100 راكب من سكان المدينة .

وتشير المعلومات المتوفرة عن الطائرة، إلى أنه تم اقتناؤها للخطوط الجوية الموريتانية من مصنعها الهولندي بدعم فرنسي، وقد صنعت 1975 ودشنت 28 نفمبر 1983 بحضور ممثلين عن خطوط UTA  الفرنسية من بينهم "ميشيل بوبين" مدير قطاع أوربا وأفريقيا بالشركة و"جان برناردو مارو" ممثلا لخطوط UTA بنواكشوط؛ إضافة إلى السلك الدبلوماسي المعتمد في موريتانيا؛ والسيد: كبير ولد سلامي مدير الطيران المدني والسيد: سيدي ولد الزين المدير العام للخطوط الجوية الموريتانية.(المعلومات من صحيفة أخبار انواكشوط).

في صباح يوم الجمعة فاتح يوليو 1994(بعد 20 عاما من شراء الطائرة) كان الركاب يسمعون عبر مكبر الصوت: سيداتي سادتي ملاح الطائرة "سي أمادو آلاسن" وأفراد طاقمه يرحبون بكم ويتمنون لكم رحلة ممتعة على متن الخطوط الجوية الموريتانية؛ الرحلة رقم: 625 المنطلقة من مطار نواكشوط والمتوجهة إلى مطار تجكجة، مدة الرحلة: 45 دقيقة درجة الحرارة 29 مائوية الرجاء ربط الأحزمة استعدادا للإقلاع.

فجأة تحطمت الطائرة نتيجة سوء الأحوال الجوية ( كان اليوم عاصفا والأتربة تحد من الرؤية) فقد ارتطمت  بصخرة على حافة المدرج واشتعلت فيها النيران، ولم تكن هناك أي وسيلة للإطفاء سوى جهود السكان المحليين واستمرت أعمدة الدخان يومين مما تسبب في جرح ما يزال عميقا رغم مرور السنين.

 

.

إعلانات

 

 

 

تابعنا على فيسبوك