حتى لا يظهر "فاعل سوء" آخر! / محمد الأمين الفاضل

تعودنا أن نصف كل من يقوم بأي عمل خير نافع للمجتمع، بشكل مجاني، ودون أن ينتظر من مقابلا ماديا، تعودنا أن نصف كل من يقوم ذلك ب: "فاعل خير". وتتأكد شرعية ووجاهة منح هذه الصفة أو اللقب الجميل لكل من ينفق من ماله الخاص أو من جهده ووقته لإطعام أو علاج فقراء جوعى أو مرضى لا يجدون ما يكفي من المال لشراء الطعام أو الدواء الذي يحتاجونه، أو لا يجدون ما يكفي من المال لتوفير احتياجات أساسية أخرى كالملبس أو السكن مثلا.
إن كل من ينفق من ماله أو جهده على الفقراء يستحق أن نصفه أو نلقبه ب"فاعل خير"، وهو جدير بأن يوصف بتلك الصفة أو يلقب بذاك اللقب، ويتأكد الأمر لمن ينفق من الاثنين معا، أي ينفق على الفقراء من ماله وجهده في نفس الوقت.
هناك حالة غريبة جدا من إنفاق المال والجهد دون مقابل، لم أسمع بها من قبل اليوم، يستحق صاحبها أن يوصف ب"فاعل سوء".
 بالفعل إنه يستحق ـ وبجدارة ـ ذلك الوصف، ومن ذا الذي يستحق ذلك الوصف غيره؟ دعونا في هذه السطور نتعرف على "فاعل السوء" هذا..
إنه شاب موريتاني من مواليد العام 1992، لأبوين طاعنين في السن، سافر إلى السنغال، وفي سفره ذلك مخاطرة. المهم أنه سافر وخاطر من أجل شراء كمية من "مادة ما" من السنغال، والعودة بها إلى موريتانيا، قبل العيد، ولا أدري أي عيد بالضبط، ليوزعها مجانا على بعض "المحتاجين لها"، دون أي مقابل مادي، وكأنها هديته لهم بمناسبة العيد!!
إن في قصة هذا الشاب شيء عجاب، وربما تكون هناك تفاصيل غابت عن التحقيق والمحكمة، فكيف لنا أن نصدق أن هذا الشاب سافر فعلا إلى السنغال، وأنفق ماله الخاص لشراء كمية من المخدرات، ثم العودة بها إلى موريتانيا ليوزعها مجانا قبيل العيد، وهو لا ينتظر من ذلك جزاءً بمال، أو شكراً من الناس؟
حقيقة إننا أمام قصة غريبة جدا، يصعب تصديقها، وهي تستدعي المزيد من التحقيق من طرف المحكمة، والمزيد من الاستقصاء من طرف صحافتنا للوقوف على الجوانب الخفية التي لم تُكشف في قصة "فاعل السوء" هذا.
وإذا لم تكن في هذه القصة أي جوانب خفية لم تكشف، وإذا كان ما قيل في جلسة يوم أمس الاثنين 10 فبراير 2025 من الدورة الجنائية بمحكمة نواكشوط الغربية هو حقيقة هذا الشاب، فهذا يعني أن هناك "جهة ما" تسعى لأن تغرق المزيد من شبابنا في مستنقع المخدرات، وقد غرق بالفعل الكثير من شبابنا في مستنقع المخدرات، وهو الشيء الذي أكد معالي وزير الداخلية وترقية اللامركزية والتنمية المحلية أمام البرلمان في يوم 14 دجمبر 2024، عندما قال : " إن المخدرات أصبحت منتشرة في المدارس وفي الحدود وفي جميع الأماكن"، وقد أعلن معالي الوزير في حديثه ذاك عن تشكيل لجنة وزارية دائمة لمواجهة المخدرات في بلادنا، وما زلنا ننتظر نتائج عمل تلك اللجنة الوزارية، كما طالب معالي الوزير في نفس الخطاب ب"هبة شعبية" ضد المخدرات، وما زالت الجهود الشعبية على هذا المستوى ضعيفة جدا، إن لم أقل غائبة تماما، هذا إذا ما استثنينا بعض الجمعيات المحدودة جدا، والتي تعمل دون أي دعم، كما هو الحال بالنسبة لجمعية " نور القمر للتعبئة الاجتماعية".
إن متابعة تفاصيل القضايا التي حكمت فيها محكمة نواكشوط الغربية يوم أمس، لتؤكد من جديد أن المخدرات قد تفشت في بلادنا، وأن الضحايا هم بالأساس شباب، وأن دور الأجانب في تفشي المخدرات واضح وجلي.
تابعتُ تفاصيل هذه الجلسة من خلال بث مباشر للصحفي "الحسن مصطفى سيدي" عبر منصة نسيم، فشكرا للصحفي وللمنصة على هذا الجهد الإعلامي المهم.
يقول الصحفي الحسن مصطفى سيدي في بثه المباشر الذي تحدث فيه عن قصة الشاب الذي منحناه في هذه السطور لقب "فاعل السوء"، يقول إنه استغل الفترة المخصصة للمداولات قبل النطق بالحكم، للجلوس قرب والد الشاب وهو شيخ كبير طاعن في السن، ويجد صعوبة كبيرة في السمع، وبعد التحدث معه أخبره بأن ابنه ليس من أصحاب السوابق، وأنه ألقي عليه القبض لأول مرة في هذا الملف خلال "العيد" الماضي، وخلال الحديث طلب الشيخ من الصحفي أن يبلغه بالحكم عندما نودي لابنه بعد المداولات.
الوالد كان يتوقع أن يُبَرَّأ ابنه أو يحكم عليه في أسوأ الأحوال بسنة، فذلك ما كان يمنيه به المحامي الذي وكله للدفاع عن ابنه.
يقول الصحفي بأنه وجد صعوبة كبيرة في إبلاغ الشيخ الطاعن في السن بالحكم على ابنه بخمسة عشر سنة كاملة، فالشيخ كان يتوقع البراءة لابنه، فإذا بحكم بالسجن لمدة خمسة عشر سنة.
لم يكن من الشيخ بعد أن أخبره الصحفي بالحكم إلا أن وقف في تصرف مرتبك، وخلع نعليه، ثم خرج من المحكمة، وهو لا يعرف كيف يتصرف، وقد أبلغ الشيخ والدة الشاب، وهي امرأة طاعنة في السن، وقد تأثرت هي أيضا بالحكم على ابنها بخمسة عشر سنة في السجن.
ليست هذه إلا قصة أخرى من قصص كثيرة قد لا تروى، تعكس مدى تفشي المخدرات في بلادنا، فلنجعل من هذه القصة الغريبة شرارة لانطلاق جهد رسمي وشعبي واسع ومنظم للتصدي للمخدرات والوقوف بحزم ضد المزيد من تفشيها، حتى لا تدمر شبابنا، وتفكك مجتمعنا، وتدخل بلدنا في نفق مظلم لن نعرف كيف نخرج منه.

 

حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
[email protected]

 

j